كان المغرب يرتبط بتأثير قوي مع بيئات إسلامية مختلفة في المجال العلمي والثقافي بصورة عامة، فقبل أن يستقر المغاربة على قراءة نافع برواية ورش عرفوا قراءات قرآنية متعددة، حيث تأثروا بداية بقراءة ابن عامر الشامي(1)، التي كان يقرأ بها أهل الشام، وذلك بفعل التأثير الشامي في الأندلس، وانتقال هذا التأثير إلى المغرب.
واستمر المغاربة والأندلسيون يقرأون القرآن الكريم برواية هشام عن ابن عامر ما يزيد على القرن، ثم تحولوا مدة إلى قراءة حمزة، ولم يتحولوا إلى رواية ورش عن نافع بطريق أبي يعقوب الأزرق إلا بعد أن استقرت هذه الرواية بمصر والقيروان وانتشرت بعد ذلك في ربوع الغرب الإسلامي كله. ورغم أن هذه الرواية صعبة الأداء فقد أتقنها المغاربة وحافظوا عليها جيلا بعد جيل إلى يومنا هذا.
ومن بين من ساهموا في إدخال قراءة نافع إلى الغرب الإسلامي أيضا العالم الأندلسي أبي محمد غازمي بن قيس الأندلسي (ت 199هـ/814م)(2) ، الذي رحل من قرطبة إلى المدينة فأخذ القراءة مباشرة عن الإمام ورش الذي انتشرت روايته بالمغرب والأندلس. وصحَّحَ غازي بن قيس مصحفه على مصحف نافع ثلاث عشرة مرة، فكان من أكثر المصاحف ضبطا في الرسم وفي القراءة(3).
لقد كان تأثر المغاربة قويا بالأندلسيين في مجال القراءة وعلومها، عن طريق علماء مشهورين أمثال مكي بن أبي طالب وأبي عمرو الداني والشاطبي والخراز، الذين تلقف علماء القراءات المغاربة كتبهم فعكفوا عليها فهما وتدريسا وشرحا، وتجاوزوها إلى التأليف في مختلف فنون علوم القرآن.
ومن بين المؤسسات التي أسهمت في نشر القراءات القرآنية في ربوع المغرب، بعض المدارس المختصة اشتهرت منها في العصور المتأخرة مدرسة دار زهيرو قرب طنجة ومدرسة سيدي الزوين قرب مراكش اللتين تخرج منهما الجم الغفير من القراء المتقنين للقراءات السبع والعشر.
لماذا اختار المغاربة رواية ورش؟
تعد رواية ورش إحدى الروايات التي تواتر بها النقل في بلاد المغرب جيلا بعد جيل، إذ كان لرواية ورش عند المغاربة مكانة و شأنا لم تقو على مزاحمتها فيه أيّ قراءة أخرى أو رواية، وذلك على الرغم من انفتاح البلاد على سائر القراءات والروايات.
وقد أضحت رواية ورش، بهذا المفهوم، شعارا للمدرسة القرآنية المغربية، والقطب الذي تستمد منه مختلف العلوم الأصلية والفرعية، والتلاوة الرسمية الوحيدة التي يستند إليها في التعليم والقراءة والدراسة وغير ذلك...
فقد اختار المغاربة تلاوة كتاب الله تعالى برواية ورش عن نافع من طريق الأزرق منذ دخولها إلى الأقطار المغربية على أيدي الرواد الأولين إلى يومنا هذا، كاختيارهم لمذهب الإمام مالك الفقهي، وكأن المغاربة باختيارهم هذا قد جمعوا بين أتباع عالم المدينة المنورة وفقيهها، ومقرئها وإمامها نافع، مقرئ المسجد النبوي.
وترجع بعض الدراسات أسباب اختيار المغاربة لقراءة ورش تسهيل الهمز الذي تتميز به قراءة نافع، عن غيرها من القراءات، فقد روي عن الإمام مالك أنه كان يكره القراءة بالنبر (أي بتحقيق الهمز)، باعتبار ما جاء في السيرة من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لغته الهمز (أي لم يكن يظهر الهمز في الكلمات المهموزة مثل: مومن، ياجوج وماجوج، الذيب...(4)
وقد شهد إمام دار الهجرة مالك بن أنس لإمامين من أئمة القراء بالمدينة المنورة في عهده بالقراءات وزكاهما وهما الإمام نافع والإمام أبو جعفر. وقد قال مالك عن قراءة نافع: "قراءة أهل المدينة سنة، قيل له: قراءة نافع؟ قال نعم"(5). وحينما سئل عن حكم الجهر بالبسملة أثناء الصلاة قال: "سلوا نافعا فكل علم يسأل عنه أهله، ونافع إمام الناس في القراءة" (6).....
الهوامش:
(1)- أبو عمر عبد الله بن عامر اليحصبي، تابعي، كان قاضيا بدمشق في خلافة الوليد بن عبد الملك، توفي سنة 118 بدمشق.
(2)- بغية الوعاة، ص 371، طبقات النحويين للزبيدي، ص 276- 278، جذوة المقتبس، 305.
(3)- غاية النهاية في طبقات القراء، ج2/2
(4)- انظر: تفسير التحرير والتنوير 1/62
(5)- أنظر كتاب: احسن الأثر في تاريخ القراء الأربعة عشر، لمحمود خليل الحصيري، ص 12.المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهية، 1386هـ.
(6)- لطائف الإشارات لفنون القراءات، شهاب الدين القسطلاني المصري، ج1/94، تحقيق وتعليق عامر السيد، وعبد الصبور شاهين، لجنة إحياء التراث الإسلامي، مطابع الأهرام، 1392هـ