من المعلوم أن فكرة إنشاء أجهزة تفتيش في كل القطاعات الغاية منه هو صيانة هذه القطاعات من الإفلاس . وهذه الفكرة شائعة في كل المجتمعات البشرية خصوصا في العصر الحديث. وقد تلقفت هذه الفكرة حتى المؤسسات الخاصة والمقاولات والشركات من أجل صيانة مكتسباتها. ولما كان قطاع التربية هو أهم قطاع لارتباطه بالعنصر البشري الذي هو أهم رأسمال المجتمعات البشرية لأنه أهم رافعة للتنمية ، فإن وجود جهاز تفتيش يحمي هذا القطاع أكثر من ضروري ، لأن خلو مثل هذا القطاع من هذا الجهاز يعني تعريض الرأسمال البشري للخسارة الفادحة التي لا تعوض . ومن المعلوم أن البلاد العربية إنما اقتبست أجهزة تفتيشها المختلفة بما فيها جهاز تفتيش القطاع التربوي من الدول التي كانت تستعمرها ، ثم صارت تابعة لها فكريا بعد حلول الغزو الفكري محل الغزو العسكري المباشر . والأمم كما يقول العلامة ابن خلدون تابعة للغالب. ومشكلة جهاز التفتيش هو طبيعة عمله أو وظيفته ، ذلك أنه لما كان بحكم طبيعة عمله مكلفا بحراسة وصيانة القطاع الذي ينتمي إليه ،فإن كل من يستهدف هذا القطاع ،يستهدف قبل ذلك من يحرسه ويحميه . وتسمية هذا الجهاز نفسها لا تخلو من دلالة قدحية في الذاكرة العربية ، ذلك أن التفتيش من فعل فتش يفتش فتشا الشيء ،إذا تصفحه ،وسأل عنه وبحث . ويسمى الذي يقوم بهذا العمل المفتش وهو اسم فاعل يدل على وجود ما يستهدفه التفتيش وهو كل عمل يتعلق بالقطاع الذي ينتمي إليه ، وبه ينهض هذا القطاع ، ويسير سيره العادي والطبيعي. ومرد الدلالة القدحية لمصطلح تفتيش أن الذاكرة العربية تستحضر من جهة فترات الاحتلال الأجنبي لبلادها حيث كان المحتل يصون مصالحه عن طريق أجهزة التفتيش في كل المجالات والقطاعات ،هذا من جهة ، ومن جهة ثانية فالتفتيش باعتباره تصفحا وبحثا و مساءلة بالضرورة يكون مصدر قلق من يعنيهم التصفح والبحث والمساءلة ، بل قد يعتبر التصفح والبحث والمساءلة بالنسبة للبعض اقتحاما للحرمات الممنوعة والمحرمة. ومما زاد المصطلح قدحا أن بعض القطاعات ذات طبيعة العمل الأمني تستعمله أيضا ، كما هو حال القطاع المسؤول عن الأمن ، مما جعل الذاكرة العربية أيضا تقيس طبيعة التفتيش الأمني بكل أنواع التفتيش، مع أن التفتيش الأمني مهمته البحث عن كل ما يهدد الأمن ، وطبيعي أن ما يهدد الأمن يكون عبارة عن سلوكات إجرامية ،لهذا يتنكب القياس الخاطىء على طبيعة التفتيش الأمني حقيقة التفتيش في القطاعات الأخرى الاقتصادية والاجتماعية ،ومنها التربوية ذلك أن التفتيش في قطاع التربية إذا ما كان يبحث في ما يضر بالقطاع ،فإنه لا يعتبر بالضرورة هذا الضرر سلوكات إجرامية ،بل يتعامل معها على أساس أنها سلوكات تتطلب التصحيح والتقويم وفق توجيهات ونصوص تنظيمية وتشريعية وضعت أصلا لصيانة القطاع . وقد يقيس بعض من يتعمد الإخلال بالقوانين المنظمة للقطاع التفتيش التربوي على التفتيش الأمني ، وهو بذلك يريد دفع تهمة الإخلال بالواجب عن نفسه ، تماما كما يحاول الماس بالأمن العام التملص من جرمه طلبا للبراءة. ومما يزيد قدحا في التفتيش على اختلاف أنواعه بما فيه تفتيش قطاع التربية أن بعض ممارسات من يشتغل به تتجاوز حدود نصوصه التنظيمية والتشريعية، فيتحمل التفتيش بذلك مسؤولية تصرفات بعض المنتمين إليه جملة وتفصيلا. وقد يشتبه على البعض التمييز بين تجاوز بعض المنتمين للتفتيش لاختصاصاتهم وبين التقيد بالقوانين ، فيبدو لهم الملتزم و المتقيد بالقوانين المنظمة للتفتيش متعسفا ، بينما يبدو لهم المخل بهذه القوانين متزنا لأنه يغض الطرف عن الاختلالات المهددة للقطاع ، ويساهم في إفلاسه. ولما كان هذا هو حال جهاز التفتيش فلا شك أنه مستهدف من عدة أطراف أولها الجهة المسؤولة عنه ،وهي الوزارة الوصية عن القطاع ، والتي ابتذلت التفتيش بطرق شتى أخطرها السعي لانحراف هذا التفتيش عن وظيفة حماية القطاع من الإفلاس ، وتحويله إلى جهاز يقوم بدور الدعاية المجانية لسياسة الوزارة مهما كانت فاشلة ، ومهددة للقطاع. وطالما ردد المسؤولون في الوزارة وهم يغازلون المفتشين عبارة : ” أنتم الوزارة ” علما بأن هذه العبارة غير صائبة لأن المفتشين هم مفتشو القطاع الذين لا تتغير وظيفة حراستهم لهذا القطاع بتغير الوزارات المتعاقبة على هذا القطاع . فلو صحت هذه العبارة لكنا أمام أنواع من التفتيش المتعدد بتعدد الوزارات المتعاقبة على هذا القطاع . فكما أن جهاز الأمن والجيش لا يتغير بتغير الأنظمة ، فكذلك التفتيش لا يتغير بتغير الوزارات . ولما كان موقف التفتيش هو رفض انحرافه عن مهمة حراسة القطاع إلى مهمة الدعاية لسياسات الوزارات المتعاقبة ،فإنه تعرض لعقاب هذه الوزارات المتعاقبة حيث أهملت هيكلته ، وظلت هذه الهيكلة مصدر عبث هذه الوزارات من أجل تحويله إلى جهاز بدون فعالية . وهكذا هضمت حقوقه المادية والمعنوية وعلى رأسها حق الاستقلالية الذي يخول لهذا الجهاز القيام بمهمة حراسة القطاع من كل من يحاول إفلاسه حتى لو تعلق الأمر بالوزارة الوصية نفسها . وصار حال هذا الجهاز دون استقلالية كحال القضاء غير المستقل، الذي عوض أن يخدم العدالة يتحول إلى قضاء يخدم السلطة. كما أن إطارجهاز التفتيش المعترف به ورقيا أو حبرا على ورق كما يقال لا يحظى بالمقابل المادي لهذا الاعتراف الورقي ، وهو أمر مقصود للنيل من عزيمة الجهاز لحمله على التراخي في مهمته انتقاما لحرمانه من مستحقاته المادية المشروعة. وآخر فصل من فصول هذا الحرمان أنه جرى الحديث مؤخرا عن تعويضات تكميلية لأجهزة التفتيش في مختلف القطاعات باستثناء جهاز التفتيش في قطاع التربية، مما يؤكد سياسة محاولة تركيع هذا الجهاز ، وتدجينه ، واستخدامه للدعاية للوزارة الوصية عوض حراسته للقطاع من الإفلاس. وإلى جانب تنكر الوزارة لحقوق هذا الجهاز المادية والمعنوية ، فإنها عملت على تجفيف منابع هذا الجهاز للتقليص من حجمه ، ومن ثم للتقليص من مهمة حراسته للقطاع ، حيث أغلقت مراكز التكوين الخاصة به و ألغيت الامتحانات المباشرة الخاصة به ، وحتى التكليفات لعقود من السنين مع وجود الحاجة الماسة إلي المفتشين في مختلف التخصصات. وموازاة مع سياسة إجهاض الوزارة لجهاز التفتيش لعبت النقابات الحزبية دورا رئيسيا في تكريس هذا الإجهاض، لأن المفتشين داخل هذه النقابات لم يكونوا يمثلون سوى مجرد مراكب تركب وأصوات تستغل من أجل مطالب فئات أخرى لا علاقة لها بمطالب جهاز التفتيش من قبيل مطلب الاستقلالية والاعتراف المادي بالإطار. وأمام ضياع حقوق جهاز التفتيش داخل النضال النقابي الحزبي فكر في صيغة نقابية مستقلة عن الصيغة الحزبية بعدما ظل لسنوات لا يجد مظلة تظله سوى المظلة الجمعوية التي لم تكن الوزارة الوصية تعيرها أدنى اهتمام ، وهي مظلة ركبها العديد من الوصوليين والانتهازيين الذين صاروا مسؤولين في هياكل الوزارة ، وكانت إذايتهم لجهاز التفتيش أخطر إذاية على الإطلاق . وبعد إنشاء النقابة المستقلة للمفتشين لم تتوان الوزارة في إجهاضها في مرحلتها الجنينية عن طريق محاولة فرض عودتها إلى بيت طاعة النقابات الحزبية عن طريقة منطق الكوتا النقابية أو ما سمي اللجنة العشرية. وظلت نضالات هذه النقابة مستمرة في ظل تجاهل الوزارة لمطالبها العادلة ، في ظل التقليل من قيمتها وشأنها عن طريق صيغ وخرائط هيكلة جهاز التفتيش لجعله جهازا تابعا لهوى الوزارة ،بعيدا عن مهمة حراسة القطاع والمنظومة التربوية. ومع شديد الأسف والألم وجدت الوزارة في بعض عناصر هذا الجهاز من يدفع به إلى تكريس إرادتها ،حيث قامت عناصر مخربة بإجهاض النقابة من الداخل عن طريق تغليب المطالب الفئوية ، والمصالح الشخصية على المطالب العادلة من قبيل الاستقلالية والحقوق المادية والمعنوية للإطار. وصار هذا الإطار موضوع مزايدة من طرف البعض من أجل إعطاء الوزارة فرصة لشطبه كمطلب عادل من لائحة المطالب ،لأنه تحول من مطلب مشروع إلى موضوع خلاف وصراع داخل نقابة الجهاز حيث تم الخلط المقصود بين دلالة وحدة الإطار المهنية ، ودلالة وحدة الإطار النقابية . وصار بموجب ذلك الشركاء داخل النقابة الواحدة أعداء ، وكان ذلك هدية مجانية تقدم للوزارة الوصية التي يقلقها تمسك جهاز التفتيش بمهمة حراسة القطاع، وتمسكه بحقوقه الضامنة لقيامه بواجبه على الوجه المطلوب. ومع شديد الأسف وبالغ الأسى والحزن تجاهلت العناصر المسببة لتفجير النقابة من الداخل كل أصوات الحكمة الداعية لإنقاذ النقابة من التبخر ، وفضلت مصالحها الشخصية على مصلحة النقابة العليا ، ورفضت أجهزة تسييرالنقابة مركزيا وجهويا تصحيح الوضع . وزاد الوضع تعقيدا أن بعض أعضاء هذه الأجهزة نقلوا إلى النقابة غير الحزبية أهواءهم وانتماءاتهم سواء المعترف بها أو غير المعترف بها ، وصار التعامل داخل النقابة تطبعه المحسوبية والعلاقات الشخصية والإخوانية ، علما بأن الدولة ترصد الانتماءات غير المعترف بها رسميا من أجل النيل من الأجهزة القانونية التي توجد بها هذه الانتماءات . ومع علم بعض الإخوة بهذا الأمر ، ووعيهم بالأضرار المترتبة عن ذلك بالنسبة للنقابة ،فإنهم يتعمدون الوصول إلى أجهزة تسيير النقابة من أجل استغلال ذلك في صراعهم ضد السلطة على حساب النقابة ، مع شديد الأسف وبالغ الأسى مرة أخرى. ولقد وجدت الوزارة في ذلك فرصة سانحة للطعن في مصداقية النقابة بناء على تقارير تفيد اختراق أطياف غير معترف بها لهذه النقابة . وإلى جانب الأطراف المركزية التي تعمل على إجهاض جهاز التفتيش ، توجد الأطراف المسؤولة الجهوية والمحلية التي تتملق الوزارة في النيل من جهاز التفتيش ، وفي نفس الوقت تقلقها حراسة التفتيش للمنظومة التربوية، خصوصا وأن هذه الأطراف تكون في الغالب مسؤولة مسؤولية مباشرة عن إفلاس هذه المنظومة. وتجد هذه الأطراف ضالتها في بعض العناصر المحسوبة على جهاز التفتيش ، والتي لا تعنيها سوى مصالحها الخاصة ، وتهافتها على المهام التي لها مقابل ،سواء كانت في دائرة اختصاصها أم خارج دائرة اختصاصها . والمسؤولون في الجهات والأقاليم يجدون في هذه العناصر الوصولية والانتهازية ضالتهم من أجل الإجهاز على جهاز التفتيش في كل مناسبة تعن لهم . وشر البلية أن يكون بعض المفتشين أدوات طيعة للنيل من جهازهم تحت تأثير مصالحهم الخاصة على حساب الصالح العام للجهاز، وللمنظومة التربوية . وكثيرة هي الإساءات التي تلحق جهاز التفتيش بما فيها محاولة العزف على وتر الوزارة الوصية ، ومن يمثلها جهويا ومحليا ،وبما فيها التقصير في أداء الواجب ومجاراة تيار إفلاس المنظومة التربوية ، وبما فيها السلوكات التي تجر على الجهاز الكلام والنقد المجاني. ولعلم جميع الأطراف التي ترغب في النيل من هذا الجهاز أنها تغامر بصمام أمان المنظومة التربوية عندما تحاول أن تستبدل جهاز تفتيش فعال بجهاز فارغ من كل دلالة ,وبدون محتوى كما تريد ه كل الأطراف المغرضة ذات المصالح التي تريد إفلاس المنظومة التربوية. محمد شركي
وجدة سيتي نت