اليسر والبساطة والمعقولية
إن المتتبع لتعاليم الشريعة الإسلامية الغراء يجدها تمتاز باليسر والبساطة والمعقولية .
{يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} .
{وما جعل عليكم في الدين من حرج} .
{لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} .
{فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه} .
فهذه النصوص وغيرها تؤكد تأكيداً جازماً أن الإسلام بمبادئه السمحة لا يكلف الإنسان فوق طاقته ، ولا يحمله من المسؤوليات فوق استعداده ، بل نجد كل هذه التكاليف والمسؤوليات تدخل في حيز الإمكان البشري ، والطاقة الإنسانية ، لكي لا يكون لأي إنسان عذر أو حجة في التخلي عن أمر شرعي ، أو ارتكاب مخالفة إسلامية .
ولنضرب على ذلك بعض الأمثلة :
من يسر هذه الشريعة أنها شرعت الحج للمسلم القادر المستطيع في العمر مرة واحدة .
ومن يسرها أنها شرعت الزكاة للقادر المالك للنصاب بنسبة -2.5 - في المئة عل الأمور النقدية ، وعروض التجارة في العام مرة واحدة .
ومن يسرها أنها شرعت للمسلم خمس صلوات في اليوم والليلة ، يؤديها في أوقات مخصوصة متفرقة في المكان الذي يريد ، ويسرت أمر أدائها بالتيمم عند فقد الماء ، وبأدائها قاعداً أو مضطجعاً أو مومياً في حالة العجز أو المرض ؛ وبالجمع بين صلاتين مع قصر الرباعية في السفر .
ومن يسرها أنها شرعت الصوم شهراً قمرياً واحداً في السنة ، يصومه المسلم مستديراً مع الفصول الأربعة ، وأباحت للصائم أن يفطر إذا كان مريضاً أو على سفر .
ومن يسرها أنها أباحت للمسلم تناول المحرم أو أكل الميتة ؛ إذا أشرف على الهلاك ولم يجد شراباً أو طعاماً يسد الحاجة .
وتمتاز بالبساطة والمعقولية :
لأن مبادئها واضحة بسيطة مفهومة يعقلها كل ذي عقل ، ويفهمها كل ذي فهم ، ويستجيب لها كل ذي فطرة سليمة صافية .
ولنضرب على ذلك بعض الأمثلة :
من بساطة الشريعة ومعقوليتها أنها أمرت الإنسان أن يفكر ويقدر ويتأمل ؛ ليصل إلى حقيقة الإيمان بواجد الوجود سبحانه ، ويقر جزماً واعتقاداً بوحدانية الله المتقررة ، وقدرته المطلقة .
ومن بساطتها ومعقوليتها أنها جعلت الصلة بين الخالق والمخلوق قائمة على الاعتقاد أن الله هو رب كل شيء ، وهو القاهر فوق عباده ، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ، ويكشف السوء .
ومن بساطتها ومعقوليتها أنها حاربت الخرافة والكهنوتية بكل أشكالها وصورها ، حاربت فكرة التثليث ، وفكرة الواسطة بين الخالق والمخلوق ، ونعتت بشدة على أولئك الذين يخدعون الجماهير بكرسي الاعتراف ، وبيع صكوك الغفران ، ومنح الجنة ، وحرمان النار .
ومن بساطتها ومعقوليتها أنها تقبل التوبة من كل من يطرق باب الله عز وجل تائباً منيباً صادقاً ؛ مهما كان مولغاً في الكفر ، متمادياً في الفسوق والعصيان دون واسطة من أحد .
ومن بساطتها ومعقوليتها أنها ربطت الإيمان بالحياة ، والعقيدة بالعمل ؛ فالمسلم لا يكون عند الله مسلماً إلا إذا سلم الناس من لسانه ويده ، والمؤمن لا يكون عند الله مؤمناً إلا إذا أمنه الناس على دمائهم وأموالهم .
ومن بساطتها ومعقوليتها تقريرها بأن النية الصالحة شرط لقبول العمل عند الله عز وجل ، فهذه النية إذا تحققت في المسلم بشكل دائم ، فإنها تقلب العمل -مهما كان نوعه- إلى عبادة لله ، وطاعة لرب العالمين ؛ وبناء على هذا يقول علماء الفقه والأصول : "إن النية الصالحة تقلب العادة إلى عبادة" .
هذا هو الإسلام في بساطته ويسره ومعقوليته وواقعيته . ألا فليفهم شباب الدعوة هذه الحقيقة ؟!! .
العدل المطلق
من المعلوم لدى كل ذي فهم وبصيرة (أن هدف الشريعة الأساسي هو إقامة العدل المطلق بين الناس جميعاً ، وتحقيق المساواة بينهم ، وصيانة دمائهم وأعراضهم وأموالهم وعقولهم ، كما صان لهم دينهم وأخلاقهم ؛ فغايتها الوحيدة تحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد ، وليست غاية الشريعة تحقيق مصلحة طبقة خاصة دون طبقة ، ولا جنس دون جنس ، ولا أمة دون أمة ؛ وليست غايتها تحقيق المصلحة المادية مع إهمال الناحية الخلقية والروحية ، وليست غايتها تحقيق المصلحة الدنيوية بقطع النظر عن المصالح الأخروية كما تفعل القوانين الأرضية ؛ وليست غايتها تحقيق المصلحة الأخروية بغض النظر عن المصالح الدنيوية كما هو شأن بعض الديانات ، والنحل المغالية في نزعتها الروحية .
ومراعاة هذه الاعتبارات كلها مستحيل أن يتحقق في تشريع بشرى ، فإن مراعاتها لتحقيق العدل المطلق لبني الإنسان تحتاج إلى علم إله ، ورحمة إله ، وحكمة إله . فالإنسان دائماً ينظر من زاوية ، ويغفل زوايا كثيرة .
أما الذي ينظر النظرة المحيطة بكل شيء ، وكل جانب ؛ فهو الخلاق العليم الحكيم الذي وسع كل شيء ، رحمةً وحكمةً وعلماً {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ؟ }.
ومن هذه النظرة الإسلامية الكلية في بناء شخصية الإنسان وتوازنه ، وتحقيق العدل له وتكامله ؛ قال علماء الاجتهاد والأصول : (إن مقاصد التشريع الإسلامي خمسة : حفظ الدين ، وحفظ النفس ، وحفظ العقل ، وحفظ النسب ، وحفظ المال) .
وقالوا : (إن كل ما جاء في الشريعة من مبادىء وأحكام ، وأوامر ونواه ، وزواجر وعقوبات ؛ كلها تهدف إلى حفظ هذه المقاصد الخمسة ..) .
وهذا تأكيد جازم على أن الشريعة نزلت لتحقق لبني الإنسان الخير العام ، والعدل المطلق في دينهم ودنياهم وآخرتهم .
فشعارها العام الذي لا يتبدل : {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} .
ومبدؤها الثابت الذي لا يتغير : {اعدلوا هو أقرب للتقوى} .
هذه هي خصيصة الشريعة في تحقيقها العدل المطلق لكل من يعيش تحت ظل حكمه ونظامه ، فهل علم شباب الدعوة نظرة الإسلام في بناء الشخصية الإنسانية ، وتكوين المجتمع الفاضل ؟!!
تلكم -يا شباب الدعوة- أظهر ما في هذه الدعوة الإسلامية التي تحملون إلى الدنيا لواءها من خصائص ومزايا ، وإن دعوة تحمل في طياتها مزايا الربانية والعالمية والشمول ، وتحمل في أنظمتها خصائص العدل والتجدد والبساطة ، وتحمل في طبيعتها ظواهر الأصالة والهيمنة والثبات ؛ لهي دعوة تستحق البقاء ، وتستأهل الخلود ، وتضيء للدنيا أنوار الحق والحضارة والعرفان ، وترفع في سماء البشرية منارات الهدى والعلم والمدنية ، وتسطر في ضمير الزمن آيات المجد والقوة والعظمة والخلود .
وهي جديرة أن يحملها الدعاة إلى الدنيا يعرفونها ، ويدعون إليها ، وينشرونها في ربوع العالمين ، وآفاق المعمورة ، ومجاهل الأرض .
ومما يؤكد صلاحية الدعوة الإسلامية ، واتصافها بالتجدد والعطاء ، وإيفائها بحاجات الأمم والشعوب ، ودفعها لعجلة التقدم الحضاري ، والإبداع المادي في كل زمان ومكان .
مما يؤكد هذا كله الشهادات التالية :
1-شهادة الواقع العالمي .
2-شهادة المؤتمرات الدولية .
3-شهادة المنصفين من غير المسلمين في العالم .
شهادات ونظريات
أما شهادة الواقع العالمي
فإن النظريات القانونية التي يباهي بها العصر الحديث ، وتفتخر بها الفلسفات القانونية قد سبقت بها الشريعة الإسلامية ، وأرست قواعدها ، وقام على ذلك فقهها وتشريعها وقضاؤها قبل أربعة عشر قرناً .
وقد عرض القانوني الكبير الأستاذ "عبد القادر عودة" رحمه الله في مقدمة الجزء الأول من كتابه القيم "التشريع الجنائي الإسلامي" عرض طائفة من النظريات والمبادىء التشريعية التي لم تعرفها القوانين الوضعية إلا أخيراً .
هذه النظرية جاءت بها الشريعة الإسلامية من وقت نزولها بنصوص صريحة تقررها وتفرضها فرضاً ، وبصفة مطلقة بلا قيود ولا استثناءات ، فلا امتياز فرد على فرد ، ولا جماعة على جماعة ، ولا جنس على جنس ، ولا لون على لون ، ولا لحاكم على محكوم .
والشعار في ذلك قوله تعالى في سورة الحجرات : {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} .
هذا على حين لم تعرف القوانين الوضعية هذه النظرية إلا في أواخر القرن الثامن عشر ، وأوائل القرن التاسع عشر ، وهي مع هذا تطبقها تطبيقاً محدوداً بالنسبة إلى الشريعة التي توسعت في تطبيق النظرية إل أقصى حد .
هذه النظرية قررتها الشريعة في أروع صورها ، فقررت حرية التفكير ، وحرية الاعتقاد ، وحرية القول .
وساق الشهيد "عبد القادر عودة" من النصوص الدالة على هذه الحرية ما يملأ النفس والبصر .
# ومن هذه النظريات : "نظرية الشورى" :
هذه النظرية نزل بها القرآن منذ عهده المكي {وأمرهم شورى بينهم} وأمدها في المدينة بقوله : {وشاورهم في الأمر} .
وقد سبقت الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية في تقريرها مبدأ الشورى بأحد عشر قرناً ، حيث لم تأخذ القوانين به إلا بعد الثورة الفرنسية ما عدا القانون الإنجليزي ، فقد عرف مبدأ الشورى في القرن السابع عشر ، وقانون الولايات المتحدة الذي أقر المبدأ بعد منتصف القرن الثامن عشر .
# ومن هذه النظريات : "نظرية تقييد سلطة الحاكم" :
هذه النظرية تقوم على ثلاثة مبادىء أساسية :
أولها - وضع حدود لسلطة الحاكم .
ثانيها - مسؤوليته عن عدوانه وأخطائه .
ثالثها - تخويل الأمة حق عزله .
وقد جاءت هذه النظرية الإسلامية بهذه المبادىء الثلاثة في وقت كانت سلطة الحاكم في العالم كله سلطة مطلقة على المحكومين ، فكانت شريعة الإسلام أول شريعة تقيد هذه السلطة ، وتلزم الحاكمين أن يتصرفوا داخل حدود معينة ، وضمن دائرة خاصة ، ليس لهم أن يتجاوزوها ، وإلا فلن يكون لهم سمع ولا طاعة .
# ومن ذلك : جملة نظريات في الإثبات والتعاقد :
مثل نظرية : إثبات الدين بالكتابة صغيراً كان الدين أم كبيراً .
ومثل نظرية : حق الملتزم في إملاء العقد لأنه أضعف الطرفين المتعاقدين .
ومثل نظرية : تحريم الامتناع عن تحمل الشهادات أو أدائها .
وهذه النظريات كلها بعض ما اشتملت عليه آية المداينة المثبتة في أواخر سورة البقرة من أحكام ومبادىء وتوجيهات .
ومن التفريع على ما ذكرناه من نظريات :
أن كثيراً من الأحكام والنظريات التي قررتها الشريعة منذ أربعة عشر قرناً ، وكانت في وقت ما موضع ارتياب أو اتهام من خصوم الشريعة لم تجد البشرية بدأ من اللجوء إليها ، والاعتراف بها ؛ تحقيقاً للعدل ، ورفعاً للضرر والظلم عن الأفراد والمجتمعات .
وأبرز مثل لذلك :
الطلاق
الذي اضطرت دول الغرب كافة إلى الاعتراف به ، وآخرها تلك الدولة الكاثوليكية العريقة بنصرانيتها وهي إيطاليا ؛ فقد عقد في "لاهاي" سنة 1968 مؤتمر للقانون الدولي الخاص "الدورة الحادية عشر" ، فكان مما تناوله البحث : إعداد معاهدة الاعتراف بالطلاق ، والتفريق القانوني على المستوى الدولي ، وهذا معناه الرجوع إلى حكم الإسلام .
الربا
الذي زعموا في وقت من الأوقات أن عجلة الحياة الاقتصادية لا تدور إلا به ، حتى قام من كبار الاقتصاديين في الغرب من ينقض فكرة الربا من أساسها باسم العلم والاقتصاد لا باسم الدين والإيمان ؛ ولعل أشهر اسم يذكر في هذا الصدد هو اسم الاقتصادي البريطاني "كينز" الذي قرر أن المجتمع لن يصل إلى العدالة الكاملة إلا بالقضاء على سعر الفائدة ؛ وكذلك الدكتور "شاخت" الألماني الذي يقول : "بعملية رياضية متناهية يتضح أن جميع المال صائر إلى عدد قليل من المرابين .." .
وهناك صيحات في أوربة تنبعث هنا وهناك :
صيحات تطالب بإباحة تعدد الزوجات ، قالت "آني بيزانت" في كتابها "الأديان المنتشرة في الهند" : (متى وزنا الأمور بقسطاس العدل المستقيم ظهر لنا أن تعدد الزوجات في الإسلام أرجح وزناً من البغاء الغربي الذي يسمح بأن يتخذ الرجل امرأة لحض إشباع شهوته ، ثم يقذف بها إلى الشارع متى قضى منها وطره ..) .
وقد قيل : إن ألمانيا أباحت نظام تعدد الزوجات حلا لأزمة الأولاد غير الشرعيين ، وتسوية لمشكلة الاتصال الحرام عن طريق اتخاذ الخليلات ، كما ذكرت ذلك صحيفة الأهرام القاهرية .
وصيحات تنادي بوضع حد للاختلاط بين الجنسين ، ومحاربة الميوعة والانحلال ؛ ذكرت جريدة الأخبار القاهرية : (أن النساء السويديات خرجن في مظاهرة عامة شملت أنحاء السويد احتجاجاً على إطلاق الحريات الجنسية هنا وهناك ، وقد اشترك في هذه المظاهرات مائة ألف امرأة ..) .
وصيحات تنتقد بشدة عمل المرأة في المعمل ، وخروجها من البيت ، وتخليها عن مسؤولية التربية ؛ نشرت جريدة "لاسترن ميل" الإنكليزية ما يلي : (.. لأن تشتغل بناتنا في البيوت كخوادم ، خير وأخف بلاء من اشتغالهن في المعامل ، حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد ، ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين ، فيها الحشمة والعفاف رداء . إنه عار على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال ؛ فما لنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية من القيام في البيت ، وترك أعمال الرجال للرجال سلامة لشرفها ..) .
إلى غير ذلك من هذه الصيحات الإصلاحية ، والنداءات التربوية ؛ التي تستهدف رجوع المرأة إلى وظيفتها الطبيعية التي خلقت من أجلها ، والحد من فوضى الاختلاط بين الجنسين الذي استفحل خطره ، وتطهير المجتمع من ظاهرة الميوعة والانحلال .
وهذا معناه العودة إلى نظام الإسلام ، ومبادىء الشريعة ، وحكم القرآن .
وصدق الله العظيم القائل في سورة فصلت : {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} .
شهادة المؤتمرات الدولية
اما شهادة المؤتمرات الدولية فحسبنا أن نذكر أشهر المؤتمرات الدولية التي عقدت في هذا القرن ، والتي شهدت أن شريعة الإسلام لهي الشريعة الحية الصالحة المتجددة الخالدة منذ أن أنزلها الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها :
أ- ففي مدينة "لاهاي" سنة 1937 انعقد مؤتمر دولي للقانون المقارن دعي إليه الأزهر الشريف ، فمثله فيه مندوبان من كبار العلماء حاضراً فيه عن "المسؤولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية" ، وعن "استقلال الفقه الإسلامي ، ونفي كل صلة مزعومة بين الشريعة الإسلامية ، والقانون الروماني" .
وقد سجل المؤتمر على أثر ذلك قراره التاريخي الهام ، بالنسبة إلى رجال التشريع الغربي وقد جاء فيه :
1-اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً من مصادر التشريع العام .
2-وإنها حية قابلة للتطور .
3-وإنها شرع قائم بذاته ليس مأخوذاً من غيره .
ب-وفي نفس المدينة "لاهاي" سنة 1948 انعقد مؤتمر المحامين الدولي الذي اشتركت (53) دولة من جميع أنحاء العالم ، والذي ضم جمعاً غفيراً من الأساتذة والمحامين اللامعين من مختلف الأمم والأقطار .
اتخذ هذا المؤتمر العالمي القرار التالي : "نظراً لما في التشريع الإسلامي من مرونة ، وما له من شأن هام ، يجب على جمعية المحامين الدولية ، أن تبني الدراسة المقارنة لهذا التشريع ، وتشجع عليها .." .
ج-وفي سنة 1950 عقدت شعبة الحقوق الشرقية من المجمع الدولي للحقوق المقارنة مؤتمراً للبحث في الفقه الإسلامي في كلية الحقوق من جامعة "باريس" تحت اسم : "إسبوع الفقه الإسلامي" ، ودعت إليه عدداً كبيراً من أساتذة كليات الحقوق العربية ، وغير العربية ، وكليات الأزهر الشريف ، ومن المحامين الفرنسيين والعرب ، وغيرهم من المستشرقين ؛ وقد اشترك فيه أربعة من مصر من الأزهر والجامعات ، واثنان من سورية ، وقد دارت المحاضرات حول موضوعات فقهية خمسة ، عينها المجمع الدولي قبل عام ، ووجهت دعوة المحاضرات فيها ، وهي
:
1-إثبات الملكية .
2-الاستملاك للمصلحة العامة .
3-المسؤولية الجنائية .
4-تأثير المذاهب الاجتهادية بعضها في بعض .
5-نظرية الربا في الإسلام .
وكانت المحاضرات كلها باللغة الفرنسية ، وخصص لكل موضوع يوم ، وعقب كل محاضرة كانت تفتح مناقشات مع المحاضر .
وفي خلال بعض المناقشات وقف أحد الأعضاء ، وهو نقيب سابق للمحامين في باريس فقال:
"أنا لا أعرف كيف أوفق ما كان يحكى لنا عن جمود الفقه الإسلامي ، وعدم صلوحه أساساً تشريعياً يفي بحاجات المجتمع العصري المتطور ، وبين ما نسمعه الآن في المحاضرات ، ومناقشاتها ، مما يثبت خلاف ذلك تماماً ببراهين النصوص والمبادىء .." .
وفي الختام وضع المؤتمرون بالإجماع هذا التقرير الذي نترجمه فيما يلي :
(بناء على الفائدة المتحققة من المباحثات التي عرضت أثناء "أسبوع الفقه الإسلامي" وما جرى حولها من المناقشات التي نستنتج منها بوضوح :
1-إن مبادىء الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية تشريعية لا يمارى فيها .
2-إن اختلاف المذاهب الفقهية في هذه المجموعة العظمى ينطوي على ثروة من المفاهيم والمعلومات ، ومن الأصول الحقوقية -وهي مناط الإعجاب- وبها يتمكن الفقه الإسلامي أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة ، والتوفيق بين حاجاتها ..) .
في هذه الشهادات من المؤتمرات الدولية المتخصصة دليل قاطع على عظمة هذه الدعوة الإسلامية ، وتجددها وعطائها ، وشمولها وخلودها على مدى الزمان والأيام .
{ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} ؟ .
شهادة غير المسلمين من المنصفين في العالم
أما شهادة المنصفين في العالم
فإنها أعظم من أن تحصى ، وأكثر من أن تستقصى ، هذه الشهادات ليست من رجال الأزهر ، وعلماء الإسلام ، وأساتذة الشريعة في الجامعات ؛ وإنما هي شهادات من كبار رجال القانون الوضعي الذين رضعوا من لبانه ، وترعرعوا في رحابه ، وهي شهادات معللة تحمل في عباراتها براهين صدقها ، معترفة بفضل الشريعة وصلاحيتها ، وسبقها وتفوقها .
ولا بأس أن نسوق هنا بعض شهادات هؤلاء المنصفين للذين لا يزالون يثقون بالفكرة إذا هبت ريحها من جهة الغرب :
-يقول الدكتور "إيزكو انساباتو" : (إن الشريعة الإسلامية تفوق في كثير من بحوثها الشرائع الأوربية ، بل هي تعطي للعالم أرسخ الشرائع ثباتاً) .
-ويقول العلامة "شبرل" عميد كلية الحقوق بجامعة "فينا" في مؤتمر الحقوق سنة 1927 : (إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد صلى الله عليه وسلم إليها ، إذ رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوربيين أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة) .
-ويقول الفيلسوف الإنكليزي "برنارد شو" : (لقد كان دين محمد صلى الله عليه وسلم موضع تقدير سامٍ لما ينطوي عليه من حيوية مدهشة ، وأنه الدين الوحيد الذي له ملكة الهضم لأطوار الحياة المختلفة ، وأرى واجباً أن يدعى محمد صلى الله عليه وسلم منقذ الإنسانية ، وإن رجلاً كشاكلته إذا تولى زعامة العالم الحديث لنجح في حل مشكلاته ..) .
-ويقول المؤرخ الإنكليزي "ويلز" في كتابه "ملامح تاريخ الإنسانية" : (إن أوروبة مدينة للإسلام بالجانب الأكبر من قوانينها الإدارية والتجارية ..) .
-ويقول المؤرخ الفرنسي "سيديو" : (إن قانون نابليون منقول عن كتاب فقهي في مذهب مالك هو شرح الدردير على متن خليل) .
-ونقل "غوستاف لوبون" عن الأستاذ "ليبري" قوله : (لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ لتأخرت نهضة أوروبة الحديثة عدة قرون) .
-ويقول "لين بول" في كتابه "العرب في أسبانيا" : (فكانت أوروبة الأمية تزخر بالجهل والحرمان ، بينما كانت الأندلس تحمل إمامة العلم ، وراية الثقافة في العالم).
-ويقول "أدموند بيرك" : (إن القانون المحمدي قانون ضابط للجميع من الملك إلى أقل رعاياه ، وهذا القانون نسج بأحكم نظام حقوقي ، وشريعة الإسلام هي أعظم تشريع عادل لم يسبق قط للعالم إيجاد نظام مثله ، ولا يمكن فيما بعد ..) .
-وسبق أن ذكرنا ما قاله القانوني الكبير "فمبري" : (إن فقه الإسلام واسع إلى درجة أنني أعجب كل العجب كلما فكرت في أنكم لم تستنبطوا منه الأنظممة والأحكام الموافقة لزمانكم وبلادكم ..) .
فهذه الأقوال وأقوال كثيرة غيرها تشهد بجلاء ووضوح على ما انطوت عليه الدعوة الإسلامية من ثروة قانونية وتشريعية ، وقوة دفع علمية وحضارية .
والفضل كل الفضل هو ما اعترف به المنصفون ، وما أقر به المختصون من نبغاء العالم ومفكريه .
شهد الأنام بفضله حتى العدا
والفضل ما شهدت به الأعداء
والمسلمون الأوائل من الرعيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان ، حين علموا طبيعة الدعوة ، ومهمة الداعية ، ومسؤولية المجاهد في سبيل الله ، وحين علموا أن الإسلام دين ودولة ، وعبادة وسياسة ، ومصحف وسيف ، ونظام حكم ، ومنهج حياة ، وحين تأصلت هذه المعاني في نفوسهم ، وعرفوا في هذا الكون مسؤوليتهم ورسالتهم ، خرجوا من محيطهم الضيق ، وبيئتهم المحدودة ، إلى أرجاء الأرض ، وآفاق الدنيا ، يمدنون الأمم ، ويكرمون الإنسان ، ويرفعون لواء التوحيد ، ويرسون في العالمين قواعد المدنية والحضارة ، وينشرون في الوجود أضواء العلم والمعرفة ، ويسطرون على جبين الزمن مبادىء الحرية والعدالة والمساواة . انطلقوا ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .
فلم يجد غير أن يخاطب السحابة التي تمر به ولا تمطره ، فيقول لها بلسان المطمئن : (أمطري حيث شئت فإن خراجك سيحمل إلينا) !!
أما ما تركته الدعوة من أثر في بناء الحضارة الإنسانية :
فإن التاريخ يشهد ، والمنصفين من فلاسفة الغرب يشهدون أن المسلمين على اختلاف أجناسهم وبيئاتهم ، وتباين لغاتهم وألوانهم في العصور الإسلامية الزاهية خلفوا في العالم آثاراً حضارية شاملة خالدة ، مازالت الأجيال الإنسانية في كل زمان ومكان تنهل من معينها ، وترتشف من سلسبيلها !!
والمؤرخون مجمعون على انتقال الحضارة الإسلامية إلى الغرب كان عن طريق المعابر التالية :
أ-معبر الأندلس .
ب-معبر صقلية .
ج-معبر الحروب الصليبية .
د-معبر مدارس الترجمة في شمال إسبانيا ، وفرنسا ، وإيطاليا .
ه-معبر تجار المسلمين والدعاة الذين نشروا الإسلام في كثير من البلدان الأوربية ، والأفريقية ، والآسيوية ، وغيرها .
ولا شك أن الأندلس هي المعبر الرئيسي لحضارة الإسلام في شتى المجالات العلمية والفنية والأدبية .
وبقيت أوروبة -بعد عبور الحضارة الإسلامية إليها- قروناً طويلة ترتشف من معين الحضارة الإسلامية ، وتنهل من سلسبيل علومها ومعارفها ؛ حتى استطاعت في أمد قصير أن تصل إلى قمة الحضارة المادية ، وأن تصعد إلى ذرى العلوم الكونية في العصر الحديث .
ويشهد على هذا كبار الغربيين المختصين في علم الطب ، والكيمياء ، والطبيعيات ، والرياضيات والفلسفة ، وسائر العلوم الأخرى :
وقال "دويبر" المدرس في جامعة "نيويورك" في كتابه "المنازعة بين العلم والدين" : (ولما آلت الخلافة إلى المأمون سنة (813)م ، صارت بغداد العاصمة العلمية العظمى في الأرض ؛ فجمع الخليفة إليها كتباً لاتحصى ، وقرب إليه العلماء ، وبالغ في الحفاوة بهم . وقد كانت جامعات المسلمين مفتوحة للطلبة الأوربيين الذين نزحوا إليها من بلادهم لطلب العلم ، وكان ملوك أوروبة وأمراؤها يغدون على بلاد المسلمين ليعالجوا فيها ..) .
وقال "شريستي" في حديثه عن الفن الإسلامي : (ظلت أوروبة نحو ألف عام تنظر إلى الفن الإسلامي كأنه أعجوبة من الأعاجيب) .
إن هذه الأقوال وأقوالاً كثيرة غيرها تبين بصدق ، وتشهد بحق على ما انطوى عليه الإسلام من قوة دفع علمية وحضارية على مدى العصور !!
ولولا أن يكون الإسلام العظيم منهاج علم ، وهذا القرآن الكريم مبعث حضارة ، وهذا الدين الخالد مفتاح نهضة ؛ لما أشاد هؤلاء المنصفون الغربيون بعظمة الحضارة الإسلامية ، ولما كشفوا عن هذه الحقائق في طبيعة دعوة الإسلام .
ولما سمعنا في التاريخ أيضاً عن جدود عباقرة ، وآباء علماء نبغاء ؛ ملؤوا الدنيا معارف وعلوماً ، ونشروا في العالم نور المدنية ، ومعالم الحضارة .
ومازالت أسماء هؤلاء العباقرة الأفذاذ تتردد على ألسنة الشرق والغرب عبر القرون .
ومازالت الأجيال الصاعدة تتغنى بعلومهم ، وتفتخر بنبوغهم ، وتتناقل آثارهم الحضارية على مدى الزمان والأيام !!
وأذكر على سبيل المثال بعض أولئك العباقرة الأفذاذ واختصاصاتهم العلمية ، ليعرف شباب الدعوة كيف شاد أولئك بنيان الحضارة ؟ وكيف حولوا مجرى التاريخ ؟ :
- ابن خلدون الذي حمل إلى الإنسانية لواء التاريخ ، وعلم الاجتماع والعمران .
- وأبو زكريا الرازي الذي حمل إلى الإنسانية لواء الطب .
- وأبو علي بن سينا الذي حمل إلى الإنسانية لواء الفلسفة .
- والشريف الأدريسي الذي حمل لواء الجغرافية .
- وأبو بكر الخوارزمي الذي حمل لواء الرياضيات والفلك .
- وعلي بن الهيثم الذي حمل لواء علم الطبيعة والبصريات .
- وأبو القاسم الزهراوي الذي حمل لواء الجراحة .
- وأبو زكريا العوام الذي حمل لواء علم النبات .
- وأبو الريحان البيروني الذي حمل لواء علم التاريخ القديم والآثار.
- وأبو البناء الذي حمل لواء الحساب .
- والإمام الغزالي الذي حمل لواء النقد ، والتربية ، ومعالجة آفات النفوس .
- والأئمة : أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل وابن تيمية … الذين حملوا ألوية الفقه والقانون .
وآلاف غيرهم نقرأ في التاريخ أخبارهم ، وتتناقل الأجيال آثارهم ، ويثني المستغربون والمستشرقون على عظمة تراثهم وعلومهم ؛ فكانت هذه الآثار التي خلفوها على مدى التاريخ منارات هدى ، وهذه الحضارة التي خلدوها على مدى الزمان إشعاعات عرفان ومدنية !!
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
الشيخ عبد الله علوان