ليس بخافٍ ما للأسرة من دورٍ في حياة الأطفال، ومدى تأثيرها في تَنشئتهم عقليًّا وانفعاليًّا، واجتماعيًّا وسلوكيًّا، فهي أولى المصادر التي تلبِّي احتياجاتهم على اختلافها، وأهمُّ البيئات التي يبدؤون فيها باكتساب الخِبرات وتكوين القِيَم، من خلال المؤثِّرات التي يتعرَّضون لها خلال تفاعُلهم معها، فيتعلَّمون اللغة، ويتدرَّبون على أساليب التعبير، وأشكال التواصُل، وأنماط السلوك؛ مما يجعل الأسرةَ مركز التأثير الأكثر عُمقًا في النموِّ العام للأطفال، ومصدرَ كلِّ تربية يتأثَّرون بها.
أهم احتياجات النمو النفسي لدى الطفل:
لقد حَظِيت مرحلةُ الطُّفولة واحتياجاتها المتنامية في العقود الأخيرة باهتمام كبيرٍ من قِبَل كلِّ المَعنيِّين بشؤون الطفل والقائمين على تربيته، من علماء نفس وآباء ومربِّين، وأُدباء وغيرهم، وبشكل خاص احتياجاته النفسيَّة، التي تتمركز أهمها في:
احتياجه إلى الحب والعطف والحنان، والأمن والطمأنينة والانتماء، وإلى الجو الأُسري المُفعم بالدِّفء، والمودَّة والرَّأْفة، القائم على التفاهُم والثِّقة والاحترام، ولا سيَّما في مراحل الطفولة الأولى، باعتبار هذه الاحتياجات تَضمن للطفل جانبًا مهمًّا من الاستقرار العاطفي والنمو الانفعالي السليم، وتُعزِّز لَدَيه الشعور بالأمان والثقة بالذات، كما أنَّ الطفل يحتاج إلى إشباع احتياجاتٍ عدَّة أخرى؛ كالحاجة إلى ممارسة الاستقلال الشخصي، وإلى اكتساب بعض المهارات العقليَّة والحركيَّة والاجتماعيَّة الأساسية، وبعض المعايير الأخلاقيَّة المهمَّة في المجتمع.
"إنَّ حاجة الطفل للحب هي كحاجته للطعام والشراب، وهو أشدُّ حاجة له عندما لا يتمتَّع بالصفات التي تجعله محبوبًا، فالحب للطفل ضرورة تربويَّة أوَّليَّة فيه، يتطوَّر تطوُّرًا طبيعيًّا، عقليًّا وعاطفيًّا واجتماعيًّا.
إنه ليس ترفًا أو تَسلية أو مُتعة، كما أنه ليس دعوة باللسان أو عصبيَّة، إنه سلوك يتَّسم بالود واللطف والرِّقة، ويَنِمُّ عن الاحترام والتفهُّم والتقدير"[1].
يصنِّف عالِم النفس "أبراهام ماسلو" احتياجات الإنسان، أو كما أسماها بـ: (هرم الاحتياجات) بقوله: إنَّ هناك احتياجات جسمانية بيولوجيَّة تمثِّل قاعدة الهرم، لا بد أن تُشبع أولاً، يَليها احتياجٌ للأمن والاستقرار، واحتياج للانتماء، الانتماء لأسرة ولبلد وللإنسانية، يَليه احتياج للحب، بمعنى أن يكونَ الإنسان قادرًا على أن يحب ويُحَب، يَليه احتياج للتقدير يتمثَّل في إحساسه أنَّ الناس يُقَدِّرونه كشخص، ويُقدرون ما يفعله؛ ليصل في آخر الهرم إلى الاحتياج لتحقيق الذات، ويُضيف إليها د/ "محمد المهدي" احتياجًا بالغَ الأهميَّة، وهو التواصل الرُّوحي، فالإنسان لَدَيه احتياج لهذا التواصل مع الله - عزَّ وجل - مع الكون، مع السماء، مع الغيب، وهذا الاحتياج يُمكن فَهْمه بشكلٍ عملي وعلمي موضوعي من المعابد المُنتشرة في كل أنحاء العالم على حدِّ تعبيره[2].
واجبات الأسرة تُجاه الطفل لتحقيق احتياجاته النفسية:
لا يَعني مفهوم الصحة النفسيَّة بالضرورة الإنسان الخالي من الأمراض النفسية، فهناك من الأشخاص مَن لا يعانون من أيِّ مرض نفسي، إلاَّ أن أدواءَهم وحركتهم في الحياة أقلُّ مما هو متوقَّع لأمثالهم، وهي كذلك بالنسبة لإبداعاتهم وتكيُّفهم الاجتماعي، وقد عرَّف علماء النفس الصحة النفسية بأنها: "مفهوم إيجابيٌّ متعدِّد المستويات، يكون فيه الإنسان صحيحًا على المستوى الجسدي، ثم على المستوى النفسي، ثم على المستوى الاجتماعي، ثم على المستوى الرُّوحي، فهو مفهوم متعدِّد المستويات لا بد أن يكون في حالة توازُن ما بين إشباع هذه المستويات وتنشيطها، وأي مبالغة في إشباع جانب معيَّن على حساب الجانب الآخر، سيُحدث إخلالاً بذاك التوازن".
إنَّ للأسرة - كما سبق - تأثيرًا أساسيًّا في تكوين شخصية الطفل من سائر جوانبها ومراحل نموِّها، خاصة النمو النفسي أو الانفعالي؛ لذا تلعب الظروف التي تعيش فيها أيُّ أسرة، والعلاقات التي تسود بين أفرادها - دورًا مهمًّا وأساسيًّا في هذا المجال، تعكس بظلالها على الوضع النفسي للطفل وسلوكياته بصورة مباشرة، الأمر الذي يُلقي على عاتق الأسرة مسؤولية كبيرة وحسَّاسة في الوقت نفسه، ومن واجباتها لتحقيق صحة نفسية أفضل لأطفالها نذكر: إبعادهم عن أجواء المشاحَنات التي تحدث بين أفراد الأسرة وبين الوالدين على وجه الخصوص، والتي تكون عادةً بيئة نفسيَّة سيِّئة للنمو، ومصدرًا للعديد من المشكلات النفسية والاجتماعية، كما عليها أن تتجنَّب التفرقة في المعاملة، أو اللجوء إلى المقارنة بين الأطفال، أو استخدام أساليب الزجر والتهديد والحِرمان، والعقاب البدني والنفسي المبالَغ فيه، أو توجيه عبارات التوبيخ والانتقاد المستمرَّة لهم، اعتقادًا بإسهامها في تربيتهم تربية قويمة.
الحقيقة أنَّ معايشة العُنف الأُسري والحدَّة في تربية الأطفال، والتشدُّد في معاملتهم - يؤثِّر سلبًا على صحتهم النفسية والعقلية؛ إذ يجعلهم عُرضة للخوف والعجز والفشل، ويقلِّل من قدراتهم على مواجهة المواقف الاجتماعيَّة، ويَخلق لَدَيهم مشكلات عدَّة؛ كالاكتئاب والقلق والكذب، والعُزلة والانطواء والسلوك العدواني، ومن جهة أخرى فإنَّ مِن واجب الأسرة - وخاصة الوالدين - ألاَّ تتجاوز حدود الحرص والاهتمام بأطفالها، أو تُسرف في تدليلهم وحمايتهم، وتُغدق عليهم الهدايا والهِبات، أو تقوم بالمسؤوليَّات التي يجب أن يقوموا هم بها، فالدلال الزائد يجعل الطفل أكثر تمرُّدًا وأكثر ميلاً إلى الغضب، ويَحرمه من فرص التفاعل الأمثل مع بيئته، إضافة إلى مشاكل أخرى؛ كضَعف الشخصيَّة، والخوف والانطواء، والأنانية وغيرها، كما عليها ألاَّ تتغاضى أو تتجاهل سلوكَهم السلبي، أو تتستَّر على أخطائهم، وألاَّ تفرضَ عليهم ما لا يرغبونه أو يُطيقونه؛ تحقيقًا لرغبات الكبار في جَعْلهم نسخًا مُكَرَّرة عنهم، ولا بد - وَفْقًا للتربية الحديثة - من إعطائهم الحرية المناسبة التي تُمَكِّنهم من اختياراتهم وَفْق رغباتهم، وبما يتناسب مع قدراتهم، ويراعي خصائصهم ومستويات نموهم، مع تحاشي تَرْكهم فِعْلَ كلِّ ما يريدون بدون توجيه وإرشاد غير مباشر.
إنَّ الاتجاه السليم في التربية النفسية، هو إيجاد نوعٍ من التوازن المُمكن بين العطف والشدَّة، وبين الحب والحَزم، أو الحب المعتدل والنظام الثابت، وبين الحرية والتوجيه، إلى جانب خَلْق بيئة مواتية لعلاقات تعاطُف وتعاون بين الأبناء، والاتفاق على نَهْجٍ تربوي واضح بين الوالدين.
لقد أثبتَت الدِّراسات النفسيَّةُ الحديثة أنَّ للعلاقات الإنسانية السائدة في الأسرة تأثيرات بالغة في الخِبرات والانطباعات التي يكوِّنها الطفل من محيطه، وأنَّ الاضطراب العائلي بأشكاله يَخلق لَدَيه الشعور بعدم الاستقرار، ويُضعف قدرته على التلاؤم مع نفسه ومع مجتمعه، ويُمَهِّد لمشكلات سلوكيَّة عدَّة، بعكس الأسرة التي يسودها الدِّفء العاطفي والاحترام المتبادل، والتي تعوِّد طفلها على حرية الرأي واتخاذ القرار، وتُعامله وَفْقًا للقِيَم التربوية الحديثة، وتؤكِّد دراسات أخرى أن الأطفال الأكثر صحة وذكاءً، والأكثر مقدرة على الإبداع والتواصل - هم الذين يعيشون في أجواء أُسرية كهذه.
ومن الضرورة أن تَعتمدَ الأسرة مع أبنائها أساليبَ المصارحة والمناقشة والحوار البنَّاء، وأن تُتيح لهم فُرَص إبداء آرائهم ومُقترحاتهم، والسماح لهم بالحديث عن مشكلاتهم، وتقبُّل ما يَطرحونه من أفكار وملاحظات، وإن كانت تبدو سخيفة للراشدين، وأن تُجيب عن تساؤلاتهم إجابات صادقة ومُبسَّطة، وتتحاشى التهرُّب منها؛ حتى لا تُثبطَ رغباتهم في الوصول إلى المعرفة، ومن الخطأ أيضًا تخويفهم من أشياء معيَّنة أو سَرْد قَصصٍ راعبة لهم؛ كقَصص الأشباح والحيوانات المُفترسة، أو الكائنات الغريبة، أو السماح لهم بالإسراف في مشاهدة التلفاز أو متابعة الإنترنت واللعب الإلكترونيَّة.
إلى جانب الاهتمام بميولهم وهواياتهم، وتَهيئة الأجواء لهم؛ لممارسة أنشطتهم، وتشجيعهم على القراءة والكتابة، وممارسة الرياضة بأنواعها، وإتاحة فُرص اللعب الحرِّ لهم؛ كونه يَهدف إلى الغاية ذاتها التي تَهدف إليها التربية، كما يجب تدريبهم على المثابرة ومواجهة الصعوبات والتغلُّب عليها، ووَضْع العراقيل المُصطنعة أمامهم؛ ليتعلموا كيف يَجتازونها بأنفسهم، مع عدم السخرية أو الاستهزاء بقدراتهم، وأخيرًا تربيتهم على الاعتزاز بالذات وتقديرها، وعلى حبِّ النظام وتحمُّل المسؤولية واحترام الآخرين.
ذلك في إطار قناعات الأسرة بدورها في الصِّحَّة النفسيَّة لأطفالها، وضمن سياسات تربوية متكاملة، تُساير أحدث نظرياتها، وتَنسجم مع مُعطياتها الحديثة.
قواعد الصحة النفسية للطفل:
يذكر د. "محمد المهدي" - استشاري الطب النفسي - مجموعةً من القواعد الصحيَّة التي يجب على الأسرة معرفتها لصحَّة نفسيَّة أفضل للطفل، وهي[3]:
1- التوازن بين التطوُّر والتكيُّف: بمعنى أن يكون هناك توازن بين متطلَّبات نموِّه وتطوُّره، ومتطلبات تكيُّفه مع المجتمع والحياة، كون الطفل كائنًا ناميًا باستمرار.
2- الدوائر المتسعة: صحة الطفل، صحة الأم، صحة الأسرة، صحة المجتمع، فالطفل دائرة تحيطها مجموعة دوائر يُفترض أن تكون جميعها في حالة توازُنٍ.
3- الصِّحَّة النفسية بين المطلق والنسبي؛ أي: إنَّ مفهوم الصحة النفسيَّة عمومًا مفهوم نسبي وليس مفهومًا مطلقًا، يختلف من بيئة لأخرى، ومن مجتمع لمجتمع، ومن أسرة لأسرة، وما يمكن اعتباره صحيًّا في مكان، يمكن اعتباره اضطرابًا في مكان آخر.
4- الاستقطاب بين النقيضين مقابل الحوار والتعايش: بمعنى أنَّ هناك أُسرًا أُحادية النظرة وأحادية التفكير، فلا ترى الأشياء إلاَّ بلونين فقط، ويرون أن ما يفعلونه هو الصحيح المطلق، وكل ما عداه خطأ ولا يَقبل النظر ولا التفكير ولا الحوار، فينشأ الطفل في هذا الجو على هذه النظرة.
5- الاحتياجات بين الإشباع والحرمان:
إن للطفل حاجات متعدِّدة، وهذه الاحتياجات لا بد من أن تُشبَع بتوازن، بمعنى أن نبدأ أولاً بالاحتياجات الأساسية، ثم الأمان، والانتماء، ثم الحب، وهكذا كل حاجة من هذه الحاجات تُشبع ولا تَطغى على الأخرى، مع ضرورة وجود توازُنٍ بين درجة الإشباع ودرجة الحِرمان.
6- مواكبة مراحل النمو: بمعنى أن يعيشوا معهم مرحلة مرحلة، وهذه المواكَبة مفيدة ليس فقط للأبناء، بل للأب والأم؛ لأنهما بحاجة أيضًا لأن يُعيدوا هذه المراحل مرة أخرى لأنفسهم.
7- احترام إرادة الطفل.
8- مراعاة مشاعر الطفل.
9- رعاية مواهب الطفل واحترام الفروق الفردية بين الأطفال؛ إذ إن كثيرًا من الآباء والأمهات يريدون للأطفال أن يصبحوا قالبًا واحدًا، يريدونهم بنفس السلوك، ويُهدرون الفوارق الفرديَّة.
10- مراعاة الترتيب والتكامل في وسائل التربية، وهي وَفْقًا لعلماء التربية تَتبع الترتيب التالي: القدوة، الثواب، العقاب، الذي يُتبع له وسائل أخرى؛ كالعتاب والتوبيخ، والحِرمان وغيرها، ولكي تسير العملية التربوية بشكل صحيح فلا بد أن تتوازَنَ وتتكامل فيها كلُّ الوسائل التربوية.
إنَّ المعرفة بالأساليب التربوية السليمة في التعامل مع الطفل والعمل بها قدر الممكن - إنما هي بوَّابة واسعة للتنشئة التي نريدها لِمَن هم أغلى مَن نَملك في الحياة، وتُتيح لنا كمربِّين - في الوقت نفسه - أن نُسهم في تربيتهم، مؤمنين بقدراتهم في إثبات ذواتهم والتعبير عنها بحرية، متسلِّحين بالثقة والتفاؤل، متفاعلين مع مجتمعاتهم ومُتغيراتها، ومُدركين لقِيَم إنسانية سامية، هي كُنه الحياة وغايتها.
[1] العربي: مجلة شهرية ثقافية مصوَّرة، تُصدرها وزارة الإعلام بدولة الكويت، العدد 414، د. "نبيه غبرة"، ص 169.
[2] الصحة النفسية للطفل، مكتبة الأنجلو المصرية؛ د. محمد عبدالفتاح المهدي، استشاري الطب النفسي، وصاحب العديد من الإصدارات في مجال هذا العلم.
[3] واحة النفس المطمئنَّة: موقع إلكتروني يُعنى بالصحة النفسية، يُشرف علبه د. محمود أبو العزائم: مستشار الطب النفسي.
عبدالمجيد إبراهيم قاسم