قال الدكتور الحسن اللحية أستاذ باحث في علوم التربية في مركز التوجيه والتخطيط التربوي في الرباط «أن الخلاصة التي ننتهي إليها هي أن البرنامج الاستعجالي
كان رهينة الخبراء ومكاتب الدراسات والتصور البيروقراطي -التقنوقراطي، وعلى من يهمّهم الأمر اليوم أن يسائلوا ويفتحصوا و يبحثوا ويقارنوا ليتعرفوا، ونعرف معهم، مآل فشل مجهود وطني لوجود تصور فوقي غير تشاركيّ، يقتل الإرادة الجماعية والموارد البشرية والكفاءات الوطنية، وتلك هي ضريبة البيرقراطية واللجوء إلى مكاتب الدراسات.
- جعل تعَثّرُ عشرية الإصلاح، سواء في نسخة الميثاق الوطني للتربية والتكوين، أو في نسخة البرنامج الاستعجالي، جعل أصابع الاتهام تتجه للموارد البشرية، أين تتجلى مكامن الضعف في الموارد البشرية؟ وما السبيل لاستدراكها؟
يجب أن ننبّه، أولا، إلى أن الميثاق الوطني للتربية والتكوين أخرج المغرب من التصورات الضيّقة لمفهوم المدرسة، وهي التصورات التي سادت منذ استقلال المغرب إلى مرحلة الميثاق. فقد كنا أمام «سوق» للتصورات، بما فيها تصورات الدولة تاريخيا، والمجسدة في إصلاحاتها الكثيرة، التي جعلت المدرسة ساحة لصراع إيديولوجي يترجم اللا ثقة وللا توافق واللا تعاقد وغياب النقاش الجماعي حول المدرسة.
إذن فمن حسنات الميثاق اأنه أخرج المغرب من التصورات الحزبوية والفئوية الضيّقة إلى الرؤية الكبرى. غير أننا ما سنلاحظه في ما بعد أن مرحلة الميثاق (-2000 2010 حسب زمن الميثاق) عرفت تباينات نرصدها في ما يلي:
أولا، لقد ساد، في بدايات أجرأة الميثاق الوطني، خطاب الأجرأة لدى الأحزاب والنقابات والجمعيات المدنية المهتمة، ومعنى ذلك أن الميثاق وصفة لا تتطلب إلا وزيرا تقنوقراطيا سيطبق وصفة ما. هكذا أصبح التفكير في التعليم، لدى الأحزاب خاصة، أمرا متروكا لوزير له قدرة ما على أجرأة الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وبالتالي تخلّت الأحزاب والنقابات عن الاجتهاد في ما ينبغي أن يكون عليه التعليم والنظام التربوي، عامة، وظل الاجتهاد هو مواكبة ما تقوم به الوزارة، مما جعل الميثاق من هذه الناحية كما لو أنه خلّص الأحزاب والنقابات والدولة من عبء التعليم ومن عبء من سيكون رائد الإصلاح. ليس مُهِمّاً أن يكون الوزير رجل سياسة أو تقنوقراطيا، فما يهم هو الأجرأة، في غياب كيف والاقتراح والمراقبة.
لقد أراد الجميع أن يتخلصوا من التعليم باسم الميثاق وأن يجعلوا التعليم محايدا إلى درجة إسناده إلى وزير غير مسؤول سياسيا، أو لنقُل غير منظم سياسيا، وهذا ما كان يُتداوَل منذ سنة 1998 إلى نهاية عهد المالكي.
ثانيا: قلنا إن الدعوات إلى قتل روح التوافق حول المدرسة المغربية تزامنت وعهدَ الميثاق، بتعالي الأصوات المنادية بوزير تقنوقراطي، حينما سيعلن المرحوم مزيان بلفقيه، في سنة 2004 من الرباط، خلال منتديات الإصلاح، عن عدم رضاه عن السير العامّ للوزارة أمام الجميع، ثم أعلن، من الدار البيضاء، عن نهاية الميثاق بشكل من الأشكال في سنة 2008، وهو يُحضّر لتصورات المجلس الأعلى وللتصور التقنوقراطي، المجسد في البرنامج الاستعجالي الذي أُعلِن عنه في ما بعد. ومبرر هذا الحديث أنْ لا الوزير، السيد اخشيشن، ولا السيدة العابدة انتظرا صدور التقرير الأول للمجلس الأعلى، وبعد ذلك، أعلنَا عن البرنامج الاستعجالي. ولا نريد هنا أن نثير خلفيات الصراعات التي كانت دارت بينهما في ما بعد..
- لكن، هل يمكننا القول إن البرنامج الاستعجالي قد فشل في تحقيق المرامي التي وضع من أجلها؟
إن بوادر فشل البرنامج الاستعجالي تكمن في هويته، فهو يريد أن يكون نفَسا جديدا للميثاق، وفي الآن نفسه، يريد أن يكون تصورا تقنوقراطيا خالصا تحتكره نخبة مُهيكَلة هرميا تطبق الوصفات دون حذر ولا معرفة بماهية مضامين وخلفيات ما تُطبّقه. فمن هذه الناحية سيكون البرنامج الاستعجالي خارج دائرة الحوار والنقاش والتفاوض والإشراك، وتلك هي أول الانتقادات المُوجَّهة له.
والخلاصة التي ننتهي إليها هي أن البرنامج الاستعجالي كان رهينة الخبراء ومكاتب الدراسات والتصور البيروقراطي -التقنوقراطي، وعلى من يهمّهم الأمر اليوم أن يسائلوا ويفتحصوا و يبحثوا ويقارنوا ليتعرفوا، ونعرف معهم، مآل فشل مجهود وطني لوجود تصور فوقي غير تشاركيّ، يقتل الإرادة الجماعية والموارد البشرية والكفاءات الوطنية، وتلك هي ضريبة البيرقراطية واللجوء إلى مكاتب الدراسات، التي لا يهُمُّها غير قياس الزمن بالغلاف المالي.. وقد أشرنا إلى ذلك في العديد من كتاباتنا، حينما تطرقنا لخطورة مكاتب الدراسات وفكرة الخبراء المستعجلين، لأنهم يقيسون كل شيء بمقدارهم، كالكيميائيين، فلا تعلم ما إذا كانوا يقدّمون لك سمّا أم ترياقا أم دواء..
- تبنت الوزارة، في السنتين الأخيرتين، ما يعرف ب«بيداغوجيا الإدماج» كإطار منهجيّ لتفعيل المقاربة بالكفايات والتطبيق العملي لِما جدّ في مجال التدريس، لكنّ هذا الإجراء لا يلقى الترحيب في صفوف رجال التربية والتكوين.. بالاستناد إلى مبررات كثيرة، وبوصفك باحثا، كيف تنظر إلى هذا التجاذب بين الوزارة والمدرّسين؟
ينبغي أن تقرأ «بيداغوجيا» الإدماج في سياق سيرورة التصور التقنوقراطي -البيروقراطي القائم على الخبراء ومكاتب الدراسات المشار إليه أعلاه، ولنوضح الأمر سنشير إلى ما يلي:
أولا: نعرف أنه منذ 2008 وإلى حين صدور تقرير المجلس الأعلى سيعرف الشأن البيداغوجي تغييرا جذريا، من خلال التصريحات التي كانت تدلي بها السيدة العابدة أو السيد اخشيشن، وهي تصريحات كانت تنحو منحى تبنّي التصورات التقويمية، وما الإشارة إلى التقويمات الدولية التي ركز عليها آنذاك إلا تمهيد لتبنّي هذه الآلية التقويمية.
ثانيا: نعرف، من خلال منشورات المنظمة الفرانكفونية، أن الشأن البيداغوجي في المغرب سيعرف تحولا نحو تبني بيداغوجيا خاصة بدول العالم الثالث، أو بتعبير غزافيي رويجرس، سيتبنى المغرب بيداغوجيا خاصة بالدول الفقيرة «بيداغوجيا الفقراء»، التي لا همّ لها غير الكتابة والقراءة والحساب، كأن المغرب يعيش في خمسينيات وستينيات القرن العشرين. والمثير في الأمر أن المنشور المهتمَّ بعلوم التربية، الصادر عن تلك المنظمة، يتحدث بلغة إلزام أعضاء المنظمة بتبنّي بيداغوجيا الإدماج. هكذا صار قرارنا الوطني في التعليم «بيداغوجيا»، بعدما استعدناه في لحظة الميثاق، قرارا فوقيا وإملائيا، فهل يرضى المغاربة اليوم ومستقبلا أن تكون بيداغوجيا الإدماج من وصية من وصايا المنظمة الفرانكفونية؟
ثالثا: نعلم، من خلال تعميم تداول رتب المغرب في التقويمات الدولية والترويج لها بمكر شديد، وإشاعة الحديث عن ظاهرة الانقطاع والهدر المدرسيين و رتب المغرب في القراءة والرياضيات وعلوم ... إلخ، أن المغرب سيدخل عهد الحروب النسب الصورية والإحصائيات الخرساء والغرض من ذلك تحسين صورته في الترتيب العالمي الصادر عن هذه الجهة أو تلك . هكذا سنتقبل الترتيب وسنعمل على تحسينه دون معرفة برهانات كل منظمة يصدر عنها هذا الحكم أو ذاك.
- لكن ما يزال هناك بعض الغموض لدى البعض بخصوص مصطلح «بيداغوجيا الإدماج»..
إذن سيدخل المغرب عهد التقويم وعهد بيداغوجيا الفقراء بتبنيه لتصور موحد لا تمييز فيه بين مالي والسينغال ودجيبوتي وساحل العاج والمغرب.... إنه تصور واحد يقوم على تقنيات تقويمية موحدة وستصير المدرسة بفضله آلة لتقويم التعلمات حصرا. والغاية دوما هي تحسين صورة المغرب في الترتيب العالمي من جهة القراءة والكتابة والحساب أو احيانا محاربة الهدر المدرسي وحينا التحكم في الكفايات الأساس وطورا القضاء على الأمية الوظيفية.... إنه سيناريو كامل هزلي ومضحك لا يكشف عن رهاناته من أول وهلة، والغريب هو أن كل من يخالف هذا الموقف يعتبر من الكافرين أو بلغة البيروقراطية يعتبر من الرافضين للإصلاح.
نريد أن نوضح بعض الأمور للسياسيين وللتربويين وللمهتمين بقضايا التربية والتكوين؛ ومنها ما يلي:
أولا: إن بيداغوجيا الإدماج ليست بيداغوجيا بالمعنى الدقيق الفلسفي والديداكتيكي للكلمة، فهي آلة تقويمية لها عدتها البسيطة والتبسيطية التي تتلاءم و التحكم في حد أدنى الذي لا علاقة له بالفوارق والذكاءات. إنها آلة توحد التقويم في أدنى مستوياته لاغير.
ثانيا: إنها ليست بيداغوجيا في الإدماج «intégration» وإنما هي محاربة للأمية يهمها insertion يكفي أن يتصفح الباحث تاريخها ومجالات اشتغال روادها (التكوين المهني ومحاربة الأمية) والأمثلة التي تساق تربويا في متون أعمالهم ليجد أن أصولها لا تربوية ولا بيداغوجية. وعلى كل من يقول بأنها تستند إلى السوسيومعرفية أظن بأنه يجهل فغوتسكي كثيرا أو لم يطلع عليه بالمرة.
ثالثا: ومن حيث ماهيتها التقويمية فإن تصورها للمدرسة والمدرس والقيم يظل تصورا غامضا ومرتبكا: ما هي وظيفة المدرسة اليوم أو بالأحرى ما هي وظيفة المدرسة اليوم في المغرب؟ نتمنى أن يجيبنا غزافيي على هذا السؤال وان تكون له القدرة ليجيب غيرنا من الدول التي يشتغل فيها. إن قضية المدرسة والتربية والبيداغوجيا والتعليم والتكوين قضايا وطنية لا تُحَلّ بوصفات الخبراء وإنما بالنقاش الوطني وبالذكاء الوطني وفق حاجيات الوطن، ولنا في اللجنة الأوربية المُكلَّفة بالتعليم خير مثال على ذلك.
رابعا: إن هذه الآلة التقويمية لا تستحضر المغرب المتعدد ثقافيا وجغرافيا، وبمعنى آخر، فإن تصورها للوضعية التقويمية يظل تصورا تنميطيا مُوحَّدا لا يهتم بالتعدد الذي يعرفه المغرب ولا يبالي ببناء المعارف، وهو ما يناقض تصورها الادّعائي حصرا بأنها تستند إلى السوسيو بنائية.
إن المطلوب في نظرنا هو ما يلي:
-نريد تصورات بيداغوجية متفاوَض عليها نتبيَّن خلفياتها وغاياتها وأسسها حتى نتملك رهان الماهيات والرهانات الوطنية والعالمية. لا نريد بيداغوجيا الوصفات والتطبيقات، لأنها تقتل الإبداعية والمحاولة والاجتهاد.
-نريد مدرسا -مدرسة هو من يبني الوضعيات التعلمية ولا يكتفي بكراسات أو كتاب مدرسي، وهذا الأمر يتطلب تصورا آخر للمدرس(ة) وللكتاب المدرسي وللتكوين الأساس.
خامسا: علينا أن ندرك أن أي تصور بيداغوجي هو تصور سياسي في آخر التحليل. فالسؤال البسيط هو أي تلميذ(ة) تتحدث عنه بيداغوجيا الإدماج؟ ففي مجمل كتابات غزافيي رويجرس لا نجد غير التلميذ الذي يقرأ جملة أو جملتين ويشير بالأصبع ويجيب ويكتب. إنه التلميذ المأمور، ولا نجد التلميذ الذي يبحث ويلعب ويرفض ويتفاوض ويتأمل ويفكر في قضايا ويتمثل ويلعب دورا ويتساءل ويغني مقطعا موسيقيا... إلخ. إن تلميذ(ة) بيداغوجيا الإدماج يحضر إلى المدرسة ليقوم ويحصل على حد أدنى؟
سادساً: إذا كان المغرب قد انخرط في فلسفات حقوق الإنسان والاختيارات، كما عبّر عنها في الميثاق والكتاب الأبيض والدستور الجديد، فإنه من المطلوب الآن أن تكون للمدرس(ة) اختيارات بيداغوجية كثيرة، وأن يصبح التدريس تعاقدا على أهداف وكفايات وليس تطبيق وصفات جاهزة، ولذلك علينا أن نعيد النظر في الولوج إلى مهنة التعليم جملة وتفصيلا، ولدينا اقتراحات في هذا الباب نشرنا جزء منها في كتابين منفصلين ضمن سلسلتنا البيداغوجية.
وخلاصة القول إننا نريد من المسؤول المقْبل عن وزارة التربية الوطنية أن يوقف هذه الآلة فورا، أو على الأقل، أن يوقف دفتر التحملات الخاص بالكتاب المدرسي، وآنذاك سيكون لكل حادث حديث. فالمغرب أصبح متعدد الجهات والكِتاب المدرسي المقْبل، حسب ما لاحظناه في دفاتر التحملات، ما يزال تنميطيا، علاوة على تضمنه تصورا بيداغوجيا تقويميا بالحصر.
- جعل معيار الأقدمية كمعيار رئيسي في انتقاء المرشحين للإدارة التربوية تهييئا للتقاعد بالنسبة إلى أغلب أطرها، إذ لا يعقل أن تسند إلى مدرسين قضوا ربع قرن في القسم.. ألا يتطلب هذا الوضع تجديد تصوراتنا حول الإدارة التربوية؟
بما أن المشكل المطروح يهُمّ أحد وجوه الموارد البشرية، وهو الإدارة التربوية، فلنفكر في الأمر بشكل أوسع انطلاقا مما تراكم لدينا من معرفة وتجربة وخبرة، وسنلاحظ أن وزارة التربية الوطنية عرفت احتجاجات كثيرة في السنة الماضية (2010 2011-) وهي احتجاجات تهُمّ التفتيش والتخطيط والتوجيه والإدارة التربوية وهيأة التدريس بصفة عامة. وهناك سؤال بسيط: لماذا لا يجد أي إطار وضعية مهنية مريحة ومقبولة منذ زمن بعيد؟!
علينا أن ندرك أن المغرب تغير ديمغرافيا ومعرفيا وعلميا واقتصاديا وعلائقيا... إلخ. وأن هذه التغييرات مسّت بنيته الأساسية على مستوى المعيش اليومي والوظيفي والمهني، فأنْ توظف شابا حاصلا على الماستر وهو في سن ال25 سنة في السلم ال11 معناه أن تنتظر منه، بعد عشر سنوات، أنْ يطالب بحقه في الترقي إلى خارج السلم، فلن يظل مكتفيا بذلك السلم إلى التقاعد.
إن هذه الصورة تختزل مواطن الارتباك في الموارد البشرية. وللخروج من هذا المأزق نقترح ما يلي:
-ربط الولوج إلى مهنة التدريس بالجامعة وتسمية الإطار بمدرس(ة) وزارة التربية الوطنية بدل ما هو جارٍ به العمل حاليا،
-ربط الإدارة التربوية والتوجيه والتخطيط والتفتيش التربوي بالجامعة،
-وضع مَراجع للكفايات، خاصة بكل إطار على حدة، يمر عبر البرلمان،
-وضع تصور جديد للقوانين الأساسية للوظيفة غير منمطة تستحضر أبعادا تقويمية كثيرة.
هكذا سندخل عهد الحركية الفعلية والعمل بالكفايات بدل منصب الشغل الذي يقتل الإبداعية والفاعلية والاجتهاد. ولكن هذه الثقافة تتطلب
رؤية ونفَسا وألما في آن واحد.