إن الفكر الفلسفي كما هو على مرور التاريخ ليس مفهوما فكريا معزولا عن الحياة اليومية، رغم أنه - أي المفهوم الفلسفي - كنتاج للفكر يرتقي في مراتب التجريد ويرتفع عن الزمان والمكان كشرطين أساسيين لحركية الآن والمكان مجردة من الحدث كمضمون.
إن ما تبدو عليه الفلسفة ظاهريا كتنظير للحقيقة الإنسانية هو كونها ترصد واقعا خاصا بما يبدو في عقول الفلاسفة، بحيث يظهر التنظير الفلسفي كما لو أنه يفقد كل ارتباطاته الموضوعية بفضاء معيشي تؤطره - عبر حركية التاريخ - جدلية الزمان والمكان. إلا أن التحليل النقدي الجذري لمضمون المقولات والمفاهيم المتداولة بين الفلاسفة ولمواقفهم النظرية يبرهن أن هذه الأخيرة ليست مجرد تنظيرات مغرقة في التجريد، بل هي محصلة لتراكمات معرفية سيرورية و عصارة تجارب إنسانية على مدى التاريخ، و تختزن أصنافا و مراقي متعددة للوعي الجماعي واللاشعور التاريخي و الأفعال المستضمرة.(1)
منذ العصر اليوناني المشرق عصر الحوارات والمنتديات الفلسفية تداخل الهاجس الفلسفي بالهاجس السياسي تداخلا فرضته العلاقة العضوية الوطيدة بين الفعل السياسي والفعل النظري المؤطر له، أو بمعنى آخر بين الفعل السياسي كتطبيق واقعي للفعل النظري التقديري للمواقف، وبين الفعل النظري كناقد للفعل السياسي السابق الحدوث . إن هذه الحركة الجدلية القائمة على فعل نظري مؤطر وفعل سياسي ناتج عنه ثم فعل نظري ناقد للتطبيق تجعل من الصعب حصر التداخل بين السياسي والفلسفي ، و استقصاء الحدود الموضوعية وتمييزها عن القراءة أو التلوين الإيديولوجي للكتابات وتأثر كل منهما بالآخر وتأثيره فيه (2) ، إن كليهما شرط لحدوث الآخر، وكلاهما نتاج لهذا الشرط أو ذاك: إن السياسي في العصر اليوناني أصبح بحكم هذا الارتباط الجدلي أداة تفاعل حيوي بين النظرية ومحيطها الاجتماعي الذي عج آنذاك بأسئلة الما وراء الطبيعة والأسطورة؛ ولربما كان هذا الارتباط الجدلي بين السياسي والفلسفي أحد المبررات التي سندت وما زالت تسند موقف محترفي القراءة الإيديولوجية للكتابات الفلسفية ( القراءات المؤدلِجة لأبحاث محمد عابد الجابري على سبيل المثال لا الحصر) غير أن التأطير النظري في الفلسفة - على العكس من ذلك تماما - لا يمكنه أن يختزل تجرده وبحثه عن الموضوعية في انعكاسات مكشوفة أو مضمرة لقناعة إيديولوجية معينة أو انتماء سياسي يطفو على سطح الكتابة الفلسفية متجاهلا عمقها الابستيمي العلمي والمجرد. ذلك أن الدراسة الموضوعية المشروطة بشروط البحث لموقف أو ظاهرة معينة تخضع لمجموعة من الشروط تبلغ حد المفارقة الواضحة، بحيث يصعب تحديد العوامل الرئيسية الموضوعية للدراسة كأداة، و للمضمون كموقف ثقافي ونتاج إنساني بالدرجة الأولى.
لا يمكن للفلسفي في جميع الأحوال أن يكون مجردا من شروط إنتاجه الذاتية كحاجة تحكمت فيها ظرفية محكومة باللاوعي الجمعي، بل إنه يظل خاضعا لها ولجزء من تمظهراتها اللامادية، ولكنه في نفس الوقت ليس انعكاسا مرآويا لأي خلفية إيديولوجية معينة، لأنه - أي الفكر الفلسفي - كوعي أولا، محاولة موضوعية رصينة للتأثير في هذه الشروط ذاتها، كمبادرة لتجاوزها و الارتقاء بها من مجرد تنظير فلسفي إلى تحليل ابستيمي يمتد خارج هذه الشروط وينفصل عنها في محاولة لدراستها دراسة علمية موضوعية.
إن الفعل الفلسفي كفعل نظري ينتمي إلى الجدلية التاريخية للأفكار لا يعد حدثا تاريخيا فحسب بل هو حدث مفاهيمي أيضا. فالتنظير الفلسفي بحكم طبيعته الخاصة، و رغم كونه موقفا محددا من حاضر تاريخي محدد ، يعبر بالأساس - أي التنظير الفلسفي - عن موقف من الماضي والمستقبل أيضا، إنه بمعنى آخر ناتج عن الزمان والمكان في حركيتهما المفاهيمية الخصبة. وبهذا المعنى وفي هذا السياق على وجه التحديد، فإن تاريخ الفلسفة، كتاريخ لمجموعة من المفاهيم التي نتداولها في عصور مختلفة وحقول معرفية متنوعة لا يمكن أن يسجن في شرطيته التاريخية وخلفيته النفسية أو الايديولوجية الخاصة، لأنه ليس تاريخا جامدا للمفاهيم، وعلاقاتها المتبادلة، بل هو في الدرجة الأولى حركية امتداد مفاهيمي يتجاوز حدود العلم و يتجاوز الزمان والمكان في شرطيتهما المقيدة بال"آن" وال"هنا".(3)
إن قوة المفهوم الفلسفي لا تعود لتاريخيته الخاصة، ولا تعود لخلفية ايديولوجية معينة، بمعنى أنه لا يقاس بدرجة جدته أو قدمه ولا بدرجة الانتاجات المؤطرة له بمعيار التصنيفات المختلفة للعصور والحضارات و أنماط الخلفيات السياسية. إن قوة مفهوم فلسفي معين ليست نتيجة حتمية لكونه وليد العصر اليوناني أو عصر الأنوار او الأزمنة الحديثة والمعاصرة، بل نتيجة لكونه مرتكزا على مراجع وتنظيرات تمليها حاجة الإحاطة الموضوعية بكل المراجع أكثر مما تمليها رغبة المنظر في تلوين كتابته إيديولوجيا وهي - أي الإحاطة الموضوعية - ترتقي بالفعل الفلسفي إلى مصاف الدراسة الابستمولوجية البحثة.
بعبارة أخرى، إن قوة المفهوم الفلسفي هي بالضبط معاييره المنهجية العلمية التي تتيح له تجاوز كل تصنيف سياسي للعلم، هي القوة التي تجعله قادرا باستمرار على الكشف عن استعداداته السيرورية في التأقلم مع ظروف نظرية مختلفة عن تلك التي ولد وترعرع فيها ( تأصيل مفهوم العقل العربي ، مفهوم المثقف في الحضارة العربية) (4). وهي أيضا استعداده للانتقال من حقل معرفي إلى آخر ومواكبة المستجدات المحتملة للسياق النظري الجديد الذي صار ينتمي إليه.
إن الجواب الفلسفي كجواب علمي او ثقافي عن إشكال تاريخي معين لا يقبل التجزيئ أو القراءة الإيديولوجية المختزلة، ففي عمقه الذي يتخذ شكل امتداد مفاهيمي متعدد المعنى، وفي حياديته العلمية التي تنفصل عن شروط الانتاج تكمن قوته و دلالته النظرية في الحركية التاريخية للأفكار.
إن ما يميز أساسا الفكر الفلسفي في عموميته، والبحث الابستيمي في خصوصيته- كمكون أصيل من مكوناته- هو كونه - أي الفكر الفلسفي - ليس مجرد أجوبة / أشلاء لا نسق يجمعها بل هو نسق كلي يجمع الأجوبة الأكثر تنافرا عن الأسئلة الأكثر تشعبا وتباينا.