مقدمة
إن في تفاعل الشعوب تقدم ورقي، وفي تلاقحها تجاوز لاختلافاتها وتحقيق للسلم والأمن في ما بينها. ولعل مطالعة الفكر الإنساني عموما والقانوني خصوصا من أهم وأعظم المداخل الهادية إلى المسالك المؤدية إلى هذا الهدف.
إذ بدراسة تاريخ القانون نتعرف على أحوال الأمم والشعوب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية فضلا عن السياسية، وبها ندخل إلى عمق المجتمع وننفذ إلي تفاصيل حياته اليومية بما تعكسه من قيم أخلاقية ونظم قانونية، فنتواصل مع كيفية إدارة المعاملات وتسييرها، وظروف تسوية الخلافات والنزاعات، ووسائل تنظيم السلوك الاجتماعي وبها ننفتح على نظم ومؤسسات قانونية ما كانت لتثير كثير اهتمام إلا من خلال دراستها في مجتمعات تفصل بيننا وبينها عشرات القرون وآلاف السنين. فيتكشف أمامنا نسق فكري قانوني تعتصر فيه خبرات وتجارب أمم وشعوب مختلفة، وسنجد فيها إجابات على أهم الإشكالات التي قد تثور بدواخل النفس من قبيل: إلي أي مدى يمكن لنظمنا الحالية أن تعود بنا مع الزمن؟ وكيف استطاع القدامى التأسيس لهذه النظم؟ وما أثر البيئة المحيطة عليها؟ وما هي أهم المحطات التي عرفتها حركة التقنين على مر العصور؟
وقد تمت معالجة هذا الموضوع وفق مخطط يتناول بالدراسة النظم والمؤسسات القانونية في حضارة بلاد ما بين النهرين من خلال التعرض لأحوالها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ثم نتطرق لنظم تلك الحضارة الخاص منها والعام وكل ذلك في فصل أول.
أما الفصل الثاني فينصرف لدراسة القضايا ذاتها في مجتمع مصر الفرعونية، أما الفصل الأخير فيلاحظ ذلك الاختلاف النوعي بين نظم القانون عند اليونان وسابقتيها مبرزا أهم العوامل التي ساهمت في ذلك.
تمهيد: التعريف بالمادة وعلاقتها بالعلوم الأخرى
أن مقتضيات تدريس أي مجال من مجالات المعرفة تفرض التعريف به حتى يكون المتلقي على بينة من المادة المدرسة وأبعادها المختلفة، بل إن الدراسة الأكاديمية تتطلب أظهار ما يربط المادة بمحيطها المعرفي لأن في ذلك كشف لجوانب أساسية من مضامينها.
تعريف تاريخ القانون:
تشتمل الدراسات القانونية دراسة القانون في حاضره وماضيه ومستقبله ويطلق على دراسة القانون في حاضره أي القانون المطبق فعلا على أرض الواقع، تعبير القانون الوضعي، ويطلق على دراسته في ماضيه تعبير تاريخ القانون أما دراسة القانون في مستقبله فيطلق عليه تعبير علم السياسة التشريعية.
إذن تاريخ القانون هو أحد مكونات القانون، والتي تعنى بدراسة القانون في ماضيه، وهو لذلك يعنى بنشوء وتطور النظم القانونية ومصادر القانون السابقة، ومدى تأثيرها على مصادر و نظم القانون الحالية.
ولا بد قبل معرفة أهمية دراسة تاريخ القانون من الإشارة إلى ان هذه الدراسة يمكن أن تكون دراسة خاصة مثلما تكون دراسة عامة. تتناول الأولى تاريخا خاصا كالقانون الموريتاني أو الفرنسي..الخ، بينما تتناول الثانية التاريخ العام للقانون، والذي يبحث فكرة الحق و القانون في العصور الإنسانية الأولى وتطور هذه الفكرة وأسباب تطورها ووسائله عبر العصور المتعاقبة، ويعنى بنشوء مصادر القانون والنظم القانونية المختلفة وتطورها بصورة عامة من دون التقيد بنظام قانوني معين.
وموضوع تاريخ القانون، مادة الدراسة، يمتد ليشمل جميع فروع القانون ونظمه ومصادره، وتقسم دراسة القانون عادة إلى قسمين هما:
- دراسة تاريخ مصادر القانون والتي تسمي \\\" التاريخ الخارجي للقانون\\\" وهي تبحث في نشوء وتطور مصادر الأحكام والنظم القانونية كالدين والتشريع والعرف والقضاء والفقه. وبتعبير آخر إن دراسة تاريخ مصادر القانون تبين المصادر المختلفة التي أسهمت في خلق القاعدة القانونية والدور الذي لعبه كل مصدر منها خلال العصور المختلفة.
- دراسة تاريخ النظم القانونية ويقصد بالنظام القانوني مجموعة القواعد المنظمة لحقوق أو التزامات أو صلاحيات ناتجة عن مركز قانوني معين وترمي إلى تحقيق أهداف معينة. والنظام القانوني كذلك يعنى إما بمراكز قانونية من القانون العام كأن ينظم قضايا الخلافة أو وصية العهد أو رئاسة الجمهورية، أو يعنى بمراكز قانونية من القانون الخاص كالملكية أو الزواج أو نظام الأسرة..وهذه الدراسة تبحث في تاريخ النظم في حد ذاتها أي بغض النظر عن مصدرها وسواء كانت نظم قانون عام أم نظم قانون خاص مثل نظام الحكم- نظام العقوبات- نظام التقاضي- نظام الأسرة- نظام الملكية- التعاقد...إلخ
ودراسة تاريخ المصادر والنظم لا تقتصر علي مجرد إثبات التطورات التي مرت بها وتعاقبها خلال العصور المختلفة بل تهدف إلي بيان الأسباب الاجتماعية- الاقتصادية- الفكرية التي أدت إلي هذا تطور وما ترتب عليه من نتائج
أهمية دراسة تاريخ القانون: إن الدراسة التاريخية للقانون اكتسبت مكانة خاصة في القرن التاسع عشر،مكانة أعطتها أهمية مزدوجة الأبعاد عملية وعلمية إذ تأتي الأهمية العملية للدراسة لتؤكد أن بعض النظم القانونية المعاصرة لا يمكن فهمها إلا في ضوء دراسة تطورها التاريخي إذ في تلك النظم لا تزال آثار الماضي وعهود البشرية الأولي بادية فيها فعلي سبيل المثال يعد الدفاع الشرعي وليدا أو امتدادا للانتقام الفردي كما أن بعض النظم القانونية مثل الزواج مازال يحمل آثار الدين بل وينبع منه رغم انفصال القانون عن الدين .
تتحدد تلك الأهمية من خلال كونها:
1- أداة لفهم القوانين الحالية على الوجه الصحيح ، ذلك أن الحقيقة الماثلة أمام الباحثين تؤكد أن القوانين الحالية، وحتى الثورية منها، ما هي إلا مرحلة من مراحل التطور القانوني، تأسست على ما سبقها وستكون هي بدورها منطلقا لما سيلحق بها.
2- لها دورها في تكوين الثقافة القانونية .فهي تنمي القدرات القانونية لطلاب القانون، إذ أن الدراسة القانونية في كليات القانون لا يقتصر دورها على إعداد رجل القانون ذي الخبرة العلمية، لكي يمارس القانون بوصفه مهنة، بل تهدف فضلا عن ذلك إلى إعداد دارس القانون ذي الثقافة القانونية الواسعة التي تجعله قادرا على شرح القواعد القانونية وتأصيلها ومعرفة سيرها وتطورها على تعاقب القرون.
3- إن اهتمام تاريخ القانون بدراسة الاكتشافات الأثرية يساهم في إظهار الحقائق وتصحيح الكثير من الأخطاء التاريخية العلمية التي سادت قرونا عديدة سبقت النهضة الحديثة. ومن أهم ذلك إبراز دور الحضارات الشرقية وخاصة تلك التي عرفتها المنطقة العربية في ميدان القانون، وما كانت البشرية ستقع فيه لو ظل الاعتقاد سائدا بأن البدايات الأولى للتقنين تجد جذورها عند اليونان و الرومان.
4- ان دراسة المادة تظهر أهميتها من وجهة نظر القانون المقارن وذلك لاستنباط الحلول المناسبة على نحو أفضل للحالات التي ستستجد في المجتمع، تأكيدا على ان القواعد القانونية، مهما كان عصرها او مجتمعها ليست مجرد مصادفة او نزعة عرضية من نزعات المشرع ن وإنما هي وليدة الظروف التاريخية وثمرة التطور الاجتماعي ونتيجة عوامل سياسية واقتصادية ودينية وفكرية متصلة الحلقات ومتدرجة مع سنة التقدم والارتقاء.
5- ان دراسة المادة لها دور في تقدير دور الأمم والشعوب السابقة على الأمم الحديثة، فالكثير من القواعد القانونية، ترجع إلى أصول قانونية قديمة، وتستدل، على سبيل المثال،على ذلك بالقاعدة التي تقضي باعتبار القوة القاهرة والحادث المفاجئ من أسباب انقضاء الالتزام، والتي تجد أصولها في شريعة حمورابي، و في مادتها (48).
نشأة القوانين في المجتمعات القديمة:
يرجع الباحثون في تاريخ القانون نشأة القوانين إلى أربع مراحل ، تراوحت خلالها ما بين الدينية والمدنية بل والمزج أحيانا ما بين الاثنين، وقد اعتمد أولئك الباحثون في تقسيمهم لتلك المراحل على مصادر القاعدة القانونية وأهمية كل مصدر بالنسبة لها وهذه المراحل هي:
أولا: مرحلة القوة أو الانتقام الفردي
ويمكن القول انها عرفت حقبتين متمايزتين هما:
حقبة سيادة مبدأ القوة
وقد تميزت هذه الفترة بأن حفظ النظام في المجتمع يتم عن طريق القوة ، وكانت القوة هي التي تنشئ الحق وهي التي تحميه أيضا . ولم يكن هناك قانون بالمعنى المعروف عندنا اليوم. وكان العقاب يتأسس على الانتقام الفردي واستخدام القوة ، أي أن المجني عليه هو الذي يحدد العقاب الذي يوقعه بنفسه آو عن طريق أهله على الجاني .وفيما بعد حلّ التوافق الذي يعتمد على إرادة الأطراف المتنازعة محل الانتقام. وقد أخذ ثلاث صور هي : الخلع أي الطرد من الجماعة، والقصاص أي إنزال عقوبة على الجاني مماثلة للفعل الذي ارتكب على المجني عليه، وأخيرا الدية وهي عبارة عن تعويض مالي للمتضرر .
حقبة تقاليد الجماعات البدائية
في مواجهة أهوال الطبيعة، التي لم يكن يدرك ما يحدث فيها، ولا يمتلك سبلا لمقاومتها، عمد الإنسان إلى الاعتقاد في الأرواح لتفسير ما يحدث وسرعا نما تحولت تلك الأرواح إلى آلهة، فأصبح لكل ظاهرة من ظواهر الطبيعة إلها، يعتقد الإنسان انه يتحكم فيها، وهو من يصدر تعليماته بكيفية التعامل معها. وهي تعليمات أذعن الإنسان لها على اعتبارها وحيا إلهيا. وكانت تلك الأحكام تصدر عن أناس، اعتبروا رجال دين أو كهنة وهم في الأساس أرباب أسر، أو رؤساء عشائر أو قبائل أو حكام مدن. وهذه الأحكام تصدر للبت في الدعاوي المتفرقة كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
ثانيا: مرحلة الحكم الإلهي:
يعتقد ان الإنسان في فجر حياته الاجتماعية لم يكن يرضخ لقواعد تنظيم سلوكه في المجتمع إلا إذا اعتقد أن مشيئة الآلهة قد قضت بأتباعها. وكان ينقلها إليه من كان يقوم بالطقوس الدينية ويدعي تلقي الوحي الإلهي.
وبسبب تعدد الشعائر الدينية وصعوبة فهمها من الإنسان العادي، فقد قامت فئة خاصة من الناس بهذه الطقوس عرفوا برجال الدين.
لقد ترتب عن اندماج الأسرة في جماعات، وهذه في الدولة، انتقال الاختصاصات الدينية إلى رئيس الدولة ، مما أدى إلى تناقص حالات اللجوء إلى الانتقام الفردي التي كانت سائدة، وكثرت حالات اللجوء إلى رئيس الجماعة والاحتكام إليه فيما يقع من منازعات بين الأفراد. وكان رئيس الجماعة يتشاور مع رجال الدين الذين كانوا يمثلون إرادة الآلهة من أجل إيجاد الحكم المناسب من خلال العادات والتقاليد السائدة. وكانت الأحكام التي تصدر عنهم تنسب إلى الآلهة، وهذا ما اكسبها قوة ملزمة في الواقع العملي.
ومن أهم صفات هذا الحكم أنه خاص بالنزاع المعروض ولا يسري على أية قضية أخرى وان كانت مشابهة للقضية التي صدر الحكم فيها. فإن صدر حكم في قضية مشابهة يختلف عن الحكم الأول فلا مجال للجدال في مشيئة الآلهة.
وفي هذه المرحلة كانت القاعدة القانونية لم تستكمل بعد كافة عناصرها، أو ينقصها عنصر مهم وهو عنصر العموم. و رغم أنها اكتسبت لاحقا عموميتها إلا إن عنصر الإلزام هو الآخر لم يكن يتأتى من خوف الناس من الجزاء الدنيوي المترتب على المخالفة، بل كان ناتجا عن الخوف من الآلهة وجزائها الأخروي.
مرحلة التقاليد العرفية ثالثا:
سبق أن رأينا كيف تحولت الأحكام الإلهية بعد ان اكتسبت عموميتها، إلى قواعد تداولها الناس، متناسين أصلها الديني، وأصبحت عادات وتقاليد تحرص السلطة على احترامها، وقد عرفت بالعادات الدينية.
وبتقدم الحضارة الإنسانية اكتشف الناس الحاجة إلى أهمية تغيير القواعد القانونية، وأنه عمل لا يؤدي إلى سخط الآلهة، فتدخل المجتمع في تطبيق أحكام هذه القواعد و في إنزال العقاب الدنيوي لمن يخالفها.وهكذا تحولت التقاليد الدينية إلى عادات وأعراف قانونية.
وأحكام هذه القواعد العرفية لم تكن مدونة ومنشورة بين الناس، وكانت معرفتها وسلطة تفسيرها وتطبيقها محتكرة من أفراد من الطبقات العليا في المجتمع كطبقة الأشراف الذين منهم الحكام.
إن حلول القواعد العرفية محل العادات الدينية لم يكن سلسا بل كان نتيجة لامتداد نفوذ سلطات الحكام المدنيين على حساب سلطات رجال الدين، وقد تمخض هذا الأمر عن صراع عنيف نشأ بين رجال الدين من جهة وبين الأشراف من الارستقراطية من جهة أخرى ، وأدى إلى انفصال السلطة الزمنية عن السلطة الدينية. ففي الشرق عمل الملوك على تقليص سلطة رجال الدين بعد صراع طويل استمر عدة قرون. وقد حدث ذلك بشكل تدريجي، بدء بالمحاكم المختلطة (مدنيين ورجال دين) إلى ظهور المحاكم المدنية المستقلة. بينما في الغرب ، تم الانتقال إلى مرحلة التقاليد العرفية نتيجة انتقال السلطة من الملوك المؤلهين إلى أقلية أرستقراطية، ما لبث ان خضعت لمطالب العامة في المشاركة في الحكم ، وعلى ذلك تم التحول من حكم ديني فردي إلى حكم أقلية إلى حكم ديمقراطي.
مرحلة التدوين أو التقنين ربعا:
يقصد بالتدوين أو التقنين أن القوانين أو التقاليد العرفية دونت في نصوص مكتوبة أدت إلى انتشارها وتطورها بشكل سريع ، وان الكتابة حفظتها من الضياع عبر التاريخ. والتدوين جعل القانون معروفا بين الناس بعد أن كان سرا يحتفظ به رجال الدين.
وقد كان التدوين استجابة لمطالب أفراد طبقة المحكومين بمعرفة ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات وفق أحكام القانون. وكانت هذه المطالبة نتيجة لانتشار الكتابة ولشعورهم بالرغبة في المساواة مع أفراد الطبقة الحاكمة، ونتيجة لمساع سلمية حينا أو رضوخا لإعمال القوة في بعض الأحيان، مما دفع الطبقة الحاكمة إلى نشر أحكام القواعد القانونية العرفية، وقد كتبت على ألواح من الحجر البرونز أو من الفخار أو الخشب، وكانت تعلن في المعابد والأسواق أو الساحات العمومية.
ثانيا: علاقة المادة بالعلوم الأخرى:
إن القانون ينظم السلوك الاجتماعي، وعلى ذلك فهو لا ينفصل عن العلوم الاجتماعية الأخرى كعلم السياسية والاقتصاد والتاريخ، وسنتناول علاقتها بعلم الاجتماع و الانتربولوجيا على اعتبار علاقتهما الوطيدة بها أيضا .
1ـ علاقة المادة بعلم الاجتماع:
لتحديد العلاقة بين علم الاجتماع والمادة يتعين أولا تعريف علم الاجتماع، و رغم أنه لا يوجد تعريف محدد لهذا العلم. فالفرق كبير بينما عناه المصطلح في بداية ظهوره وبين ما هو عليه الآن، قد تم تصنيفه ليشمل فقط البحوث والدراسات الاجتماعية التي تستخدم الوسائل العلمية كالمناهج وطرق البحث العلمية ولعل ذلك ما يظهر لنا التقاطع بين المادة وعلم الاجتماع غير أن عاملين اثنين يميزان بينهما:
ـ تقوم الدراسة الاجتماعية على التركيز على ظاهرة أو علاقة أو سلوك اجتماعي معين.
أما دراستنا فينصب اهتمامها بشكل أكبر على تلك النظم أو المؤسسات الاجتماعية بهدف إعطاء صورة شمولية عن تطورها ومن خلال ذلك عن تطور المجتمع الإنساني
ـ مكانة التاريخ في الدراسة الاجتماعية أقل منها في مادة تاريخ القانون والمؤسسات.
فعلم الاجتماع يعنى أساسا بالحاضر و يتعاطى مع التاريخ بالقدر الذي يساعده على فهم الظاهرة محل الدراسة. أما في مادتنا فإن التاريخ يدخل جزءا أصيلا أو جوهريا في الدراسة .
2ـ علاقة المادة بالانتربولوجيا
تعرف الانتربولوجيا بشكل عام بأنها دراسة الإنسان من حيث أصوله وأجناسه و الأشكال الأولية البسيطة للمجتمعات الإنسانية وفي المراحل البدائية من تطورها.وهي بتعبير آخر دراسة الإنسان والمجتمعات البشرية. أما الانتربولوجيا الثقافية فهي دراسة تمييزية للمعتقدات والنظم والهياكل الاجتماعية.كما أنها تعرف على أنها نوع من الدراسات الاجتماعية الهادفة على وجه الخصوص إلى دراسة الشعوب البدائية سواء كانت تلك البدائية عائدة إلى أنها وجدت في فترات سحيقة أو أنها ما زالت موجودة ولكنها حافظت على بدائيتها ولم تتفاعل مع عناصر التحديث التي عرفتها المجتمعات الأخرى.
وجدير بالذكر أن الدراسات الانتربولوجية قد تجاوزت هذا التعريف لتدخل في مجال اهتمامها المجتمعات القروية الحديثة وقطاعات من المجتمعات الصناعية المعقدة التركيب، وفي جميع الحالات لا تقتصر دراسة الانتربولوجيا على ظاهرة محددة بل تشمل المجتمعات المقصودة بكاملها.
الفصل الأول: تطور القوانين والنظم في حضارة بلاد ما بين النهرين
خدمة لهدفنا في الوقوف على أهم النظم والمؤسسات التي عرفتها هذه الحضارة يرمي هذا الفصل إلى إعطاء لمحة موجزة عن ما بين النهرين، تتطرق للإطار الاقتصادي والاجتماعي لهذه الحضارة، ثم نتناول أهم الشرائع التي عرفتها المنطقة في تلك الفترة قبل أن نتناول مؤسسات القانون العام والخاص في تلك الحضارة.
المبحث الأول: في المعطيات التاريخية والاجتماعية
يدرس هذا المبحث التطورات التي مرت بها المجموعات البشرية الأولى التي سكنت هذه المنطقة ثم المعطيات الاقتصادية والاجتماعية التي هيأتها الظروف الجغرافية والمناخية.
المطلب الأول : لمحة تاريخية عن بلاد ما بين النهرين
ساعدت العوامل الدينية والمناخية على أن تكون منطقة ما بين النهرين(دجلـة-الفرات ) موطنا لأهم وأعرق الحضارات الأولى. فقد شكل شعبان أساسيان الفاعل الأهم في هذه الحضارة وهما: السومريون الذين استوطنوا عند رأس الخليج وانتشروا شمالا وأصولهم غير معروفة. أما الشعب الآخر فهم الساميون الذين وفدوا إلى تلك المنطقة من الجزيرة واستوطنوا بالأساس إلى الشمال من مدينة سومر. والذين ترجع أقدم هجراتهم إلى الألف الرابعة قبل الميلاد.وهي الهجرة التي حملت العموريين إلى الاستقرار في أكاد في جنوب العراق وكونوا إمبراطورية بابل الشهيرة وإمبراطورية آشور فيما بعد، وإليهم ينتسب البابليون والأشوريين.
ومنذ الألفية الثالثة قبل الميلاد كون هذان الشعبان إمارات ومدنا ظل الطابع التصادمي المظهر البارز لعلاقاتها لسعي كل واحدة منها للسيطرة على الأخرى. وفي الربع الأخير من الألف الثالثة توحدت مدن وإمارات سومر تحت حكم واحد ’غير أنها ما لبثت أن سقطت وضعفت وخضعت لحكم العموريين وخضعت بذلك سومر وأكاد لدولة واحدة لكنها سرعان ما انهارت تحت تأثير هجمات القبائل الكردستانية في أواخر الألفية الثالثة ثم ما لبث أن عاد الأمر إلى أبناء سومر في ظل حكم ملوك أور في نهاية الألفية الثالثة وفي بداية الألفية الثانية قبل الميلاد.
وفي هذا العصر صدرت مدونة (أور نامو) ثم أزيحت هذه الدولة بسبب الهجرة السامية من الجزيرة و والشام وهكذا ظهرت إمارة أشنونا في أكاد وفي تلك الفترة صدرت مدونة أشنونا
أما في سومر فقد شهدت تلك العصور صدور مدونة (لبت عشتار) غير أن الفترة البارزة في توحيد الحكم بدأت مع حكم الملك (حمورابي) الذي وحد ما بين النهرين سومر في الجنوب تليها أكاد شمالا وبابل مستقبلا – وفي أقصى الشمال آشور.
ويذكران بابل حكمت فترة من الزمن استمرت حتى 1550 قبل الميلاد تاريخ انهيارها بفعل ضربات الحيثيين، والذين تمكنوا من تخريب بابل وإخضاعها لسلطانهم، فاختفت بابل كقوة سياسية كبرى. وهكذا تميز النصف الثاني من الألفية الثانية قبل الميلاد بأفول نجم بابل بسبب ظهور الآريين على مسرح الأحداث في آسيا وإخضاعها لسلطانهم. لتبدأ مرحلة جديدة من الضعف والتشرذم سادت خلالها قبائل الكاسيين الذين لم يكونوا أهل حضارة .و كانت فترة حكمهم غير ذات أهمية فيما يتعلق بموضوعنا.
عاد الحكم إلى بابل ولكنه ظل ضعيفا حتى ظهر شعب آخر هم الآشوريون الذين كونوا إمبراطورية في القرن الثامن قبل الميلاد. فكانت آشور و في شمال العراق مركزها. وقد أخضعت لسلطانها كل بلاد ما بين النهرين وسوريا وفينيقيا ومصر. وبعد سقوطها عاد الحكم لبابل مع شعب سامي آخر هو (الكلدانيين ما بين663-539) قبل الميلاد وشمل سلطانهم كل العراق وسوريا وفلسطين.واستمر حكمهم حتى 539 قبل الميلاد حيث سيطر الفرس على جميع المنطقة في عهد ملكهم كورش وابنه قمبيز إلى سقط حكمهم على أيدي الإغريق 333قبل الميلاد حل الحكم الروماني محل حكم هؤلاء في القرن الأول قبل الميلاد.
المطلب الثاني: الإطار الاقتصادي والاجتماعي لحضارة بلاد مابين النهرين
ساد نمط الإنتاج الآسيوي في بلاد واد الرافدين حيث كان الملك على الأقل اسميا هو المالك الوحيد لجميع الأراضي. وعرف هذا الاقتصاد انتشار الرق على نطاق واسع وقد تميز هذا الاقتصاد وكما الاقتصاديات المائية باشتغال أغلب السكان بالزراعة وأعمال السقي، مما استدعى القيام بحفر وإنجاز شبكات متعددة من قنوات الري لزيادة الأراضي المستغلة زراعيا.
ورغم الجفاف الذي عرفته المنطقة فقد ازدادت قدراتها الزراعية واستفادت من الاستقرار النسبي الذي افتقرت إليه تجمعات الرحل والمتنقلين. وإلى جانب النشاط الزراعي نشطت التجارة في الداخل والخارج وتعددت المعاملات وأسهم النشاط التجاري واتساع نظام الرق بتحضر المجتمع البابلي وإرساء الملكية الخاصة وتثبيتها حيث كانت الملكية العقارية مثلا لا تفوق مساحتها أكثر من 8 هكتارات ويختص بها الأشراف – الكهنة- التجار الكبار.
وقد أسهمت الوفرة التي عرفها اقتصاد هذا المجتمع في خروج جزء من إنتاجه إلى الخارج وفي نفس الوقت الذي أدى نقص بعض السلع والموارد إلى الدخول مع الخارج في علاقات اقتصادية طورها المجتمع البابلي ووصل بها إلى أقاصي الهند وكابول شرقا وإلى مصر و فلسطين غربا وانحدر بها مع الفرات إلى البحر جنوبا.
لقد بلغ التطور الاقتصادي في بلاد ما بين النهرين مبلغا جعل البعض يعتبره مجتمعا تجاريا أكثر منه زراعيا ومدنيا أكثر منه ريفيا.
لقد فرض مستوى التطور الاقتصادي تأسيس الشركات، وعرف نظام الإيداع والقرض بنوعية الفائدة والرهن. وقد عمل الموقع الجغرافي في تنشيط حركة التجارة الخارجية كما ساعدت الأنهار والقنوات على تنشيط حركة السلع داخليا.
وبفضل هذا النشاط تمكن المجتمع البابلي من تجاوز مرحلة (المقايضة) وصولا إلى مرحلة الاقتصاد (النقدي)، فبعد أن كانت وسيلة التقويم المستعملة سلعية ،وهي (الشعير) وكانت وحدة التعامل هي (المد) وهو مكيال تكال به الحبوب ويستعمل في نفس الوقت كوحدة تقويم لكافة السلع، ظهرت النقود المعدنية، عبارة عن سبيكة من البرونز أو الفضة ، توزن أثناء إجراء المبادلات.
ووحدة الوزن التي استخدمت في هذا الشأن هي (الشاقل) \\\"أو الشاكل\\\" وبأجزاء مختلفة : فنجد أن أصغرها حبة القمح وتزن 47 ملغرام وتسمى (تشي)، ثم الشاقل نفسه وهو عبارة عن 180 حبة قمح أي ما يعادل حوالي 8 أغرام ، ثم المينا ويساوي 60 شاقلا أي ما يعادل حوالي 500 أغرام، ثم البيلو وهو 60 مينا ويزن حوالي 30 كغ .
و يجدر بالذكر أن ظهور العملة النقدية لم ينهي التعامل بالشعير كعملة سلعية بل كان كلاهما مستعملا حتى العصر الفارسي ،إذ جرى التعامل بالشعير في الريف أساسا، وبالنقود في المدن مع عدم وجود ما يمنع من استعمال أحدهما في أي مكان كان.
أما ما يخص المجتمع البابلي القديم فقد عرف ثلاث طبقات هي: طبقة الأحرار- طبقة العامة- وطبقة العبيد .
وقد تشكلت طبقة الأحرار (أوليم) من الأشراف والكهنة والتجار والعسكريين وهي تتمتع بحماية قانونية كاملة.
أما طبقة العامة (المشكينو) فتتألف من التجار الصغار والعبيد القدامى والأشراف الذين أقصوا لأسباب اقتصادية من طبقة الأحرار.
رغم أن أفراد هذه الطبقة يتمتعون بكثير من الحقوق إلا أنهم لا يحوزون نفس الحماية القانونية للسادة الأحرار.
أما طبقة العبيد فهي طبقة عريضة نظرا لتطور التجارة وإفلاس التجار والفلاحين وانتشار البؤس والحروب وعدم الوفاء بالدين فأصبحت هذه الطبقة الأوسع في المجتمع والأقل حماية قانونية.
المبحث الثاني :الشرائع المسمارية ومصادرها
يتناول هذا المبحث الدور التاريخي الذي لعبته اللغة والثقافة الساميتين ليس فقط في نشر وتوحيد القوانين وإنما في التوحيد السياسي.ثم يتطرق للشرائع التي كشفت عنها أثار تلك الحضارة بعد إن يتناول أهم مصادر معلوماتنا عنها.
المطلب الأول: الشرائع المسمارية ودورها التوحيدي
تطلق الشرائع المسمارية علي القوانين التي كانت مطبقة في غرب آسيا القديمة في الفترة التي تبدأ من الألف الثالثة قبل الميلاد حتى منتصف الألف الأولي قبل الميلاد، تاريخ خضوع المنطقة لحكم فارس. وهذه التسمية ترجع إلي انتشار الكتابة المسمارية في كل المنطقة حتى حلت محلها الكتابة بالحروف الهجائية في النصف الثاني من الألف الأولي قبل الميلاد.
وواقع الأمر أن الكتابة ظهرت لأول مرة في سومر في الألف الرابعة قبل الميلاد ثم انتشرت إلي كل المنطقة وذلك ما تدل عليه الوثائق التي اكتشفت في بقية بلاد ما بين النهرين.
وقد تقوت الوحدة في طريقة الكتابة من الألف الثانية ق.م بانتشار لغة أكاد ( بابل وآشور) وهي لغة سامية في كل بلاد ما بين النهرين وحلولها محل السومرية فضلا عن انتشارها في مجال القانون والإدارة خارج ما بين النهرين لأسباب سياسية ولتفوق هذه اللغة علي غيرها من اللغات ,وهي ظاهرة شبيهة بتلك التي حدثت مع اللغة اللاتينية في العصور الوسطي عندما تفوقت اللغة الفرنسية عليها خلال القرنين السابع والثامن عشر, وبما حدث للغة الفرنسية بعد ذلك في القرنين الماضي والحالي.
وقد ساعد ذلك الوضع إلي ترسيخ الوحدة الثقافية (طريقة الكتابة واللغة السائدة في مجال القانون ) والوحدة اللغوية في جميع المجالات لان اللغات التي سادت في المنطقة كانت من أصل سامي وكانت جذورها في اللغة الأكادية وقد أدى ذلك إلي انتشار الأخيرة تماما مثل ما حلت اللغة العربية محل أخواتها اللغات السامية بعد انتشار الإسلام.
وقد تعززت الوحدة الثقافية بوحدة قانونية حيث ظهر في تلك المنطقة منذ أواخر الألف الثالثة قانون مشترك يعكس حضارة ذات خصائص مشتركة . فالموقع ساعد علي ازدهار تلك الحضارة حيث شكلت حلقة الوصل بين الشرق الأقصى والشرق الأدنى.إضافة إلي العوامل التي مرت سابقا كما أدى تشابه ظروف البيئة إلي تشابه المشاكل الاجتماعية وتشابه الحلول القانونية في المنطقة سالفة الذكر فظهرت مجموعة من القواعد القانونية تتشابه في الأصول والأحكام وان اختلفت في بعض الحلول الجزئية في الأزمنة والأمكنة المختلفة.
وكان لأحداث سياسية أثرها الهام في تعذر نسبة هذا القانون إلي احد شعوب هذه المنطقة دون غيره من الشعوب. فأطلق عليه القانون المسماري نسبة إلي طريقة كتابته . وذلك نتيجة للصراعات الدائمة التي لم يستقر فيها الحال لحاكم مدة طويلة إلا في فترة قصيرة ومتقطعة ومن أبرزها فترة حكم بابل والذي ظل قانون ملكها حمو رابي هو القانون العام لكل المنطقة في شرق البحر الأبيض المتوسط حتى أثناء خضوعها للاحتلالين الفارسي والروماني.
وقد اجتمعت في ذلك القانون عصارة قوانين أقوام عديدة منها السومريون ، والأكاديون ، البابليون والعيلاميون والأشوريون وغيرهم . غير أننا نستطيع أن نطلق على تلك الشرائع اسم الشرائع السامية كما يمكن أن نطلق عليها اسم شريعة بابل لان قانون حمو رابي في بابل كان هو خاتمة المطاف في تطور النظم القانونية التي سادت كل بلاد ما بين النهرين بعد أن وحدتها.
المطلب الثاني : مصادر معلوماتنا عن الشرائع المسمارية
ونقصد بها الوثائق التي كشفت عنها البحوث الاثارية والتي سنتكلم عن أهمها عند الحديث عن قانون حمو رابي . وتتميز الوثائق الأثرية عن بلاد ما بين الهرين بتنوعها وكثرتها فضلا عن أنها مكتوبة علي ألواح من الطين وظلت مدفونة داخل الأطلال دون أن يعتريها تلف وهي مكتوبة بالكتابة المسمارية بلغة أكاد.
وقدر الباحثون الأثريون عدد الوثائق المسمارية بحوالي 150 ألف وثيقة محفوظة في مختلف متاحف العالم في أوروبا وأمريكا وآسيا لم يترجم منها إلا العدد القليل .
وقد تعرضت هذه الوثائق لمختلف أوجه النشاط الحضاري كالدين والطب والفلك والرياضيات الخ أما ما تعرض منها للقانون والاقتصاد فهو يمثل تسعة أعشارها تقريبا. و تقسم مضامين هذه الوثائق القانونية إلى عدة أنواع أهمها:
ـ وثائق مثبتة للمعاملات اليومية بين الأفراد:
وهي أكثر الأنواع عددا وتشمل سائر التصرفات القانونية كالبيوع والزواج وغيرها، وجميع الوثائق تعطينا صورة واقعية لحالة المجتمع من النواحي القانونية والاجتماعية والاقتصادية من بداية الألفية الثالثة وحتى آخر القرن الرابع قبل الميلاد.
ـ نصوص تشريعية: وهي تشمل عدة مدونات قانونية من أشهرها مدونة حمورابي وتلك التي أصدرها الملوك والحكام في عهود مختلفة.
- المراسلات الملكية: وهي تعطينا صورة عن القانون الإداري في ذلك الوقت. - المدونات العرفية : ومن أشهرها قوانين آشور
- الأحكام القضائية: وهي نادرة وفي الغالب لا تأخذ شكل الأحكام المتعارف عليها عندنا اليوم .
و من الجدير بالذكر أننا لا نجد أي أثر للكتابات الفقهية.
المطلب الثالث: مصادر ومضمون شريعة حمورابي،
إن دراسة شريعة حمورابي والتمعن في محتواها تتطلب من الدارس البحث في مصادر وأصول تلك القواعد القانونية التي عمد هذا المشرع إلى الاسترشاد بها من أجل بلوغ هدفه في نشر قوانينه وتنظيم المجتمع البابلي من خلالها.
أولا:مصادر شريعة حمورابي
إن شريعة حمورابي هي محصلة جمع ما استقته من القوانين السابقة عليها، بمعنى ما تم تنقيحه من تلك القوانين لتنسجم ومصلحة المجتمع الجديد سياسة دولته التشريعية، فضلا عن ما تم استحداثه من مواد لم تكن موجودة في تلك القوانين. وعلى ذلك تكون التقنينات السابقة لشريعة حمورابي قد شكلت أهم مصادرها.
- إصلاحات اوركاجينا: لقد تم اكتشاف تلك الإصلاحات في العام 1878 في مدينة لكش في جنوب العراق، التي ازدهرت في حكم أشهر ملوكها اوركاجينا 2280-2109 ، وقد تمت ترجمتها من قبل العالم الفرنسي تورود انجان.
ويبدو أن لتلك الإصلاحات استهدفت القضاء على بعض الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية التي نتجت عن ممارسات غير قانونية في تلك الفترة، خاصة ما يتعلق منها بالضرائب، ورفع المظالم والاستغلال وسعت إلى تحقيق الحرية والعدالة بين الناس.
- قانون اورنمو 2111 – 2003 ق.م: يعتبر هذا القانون أقدم قانون مكتشف لحد الآن، وقد عثر على مواده على ألواح موزعة بين مدينة نفر ومدينة أور.. واشتمل هذا القانون على 31 مادة، رغم عدم وصولها كاملة.
ويظهر أن حمورابي في تشريعاته تأثر بهذا القانون في جوانب متعددة منها حقوق المرأة عند الطلاق (المادة 6،
، واتهام رجل زوجة رجل آخر بالزنا، وكذلك علاقة الخطيب بخطيبته، وعقوبة الأمة التي تساوي نفسها بسيدتها، وعقوبة الشهادة الكاذبة أو شهادة الزور، وعقوبة إغراق الحقل المزروع من قبل الغير، وكذلك إهمال زراعة أرض مستأجرة.
- قانون لبت عشتار: تم اكتشافه في مدينة نفر 1947، وهو صادر حوالي 1934-1924ق.م. من قبل خامس ملوك سلالة أيسن. وقد تضمن مقدمة، أكدت الطابع الإلهي للقوانين ، حيث اعتبر أن حكمه للبلاد هو تلبية لرغبة الآلهة في تحقيق العدالة، واحتوى متنه (القانون) على 37 مادة متنوعة بخاتمة يتعهد فيها الملك بالقضاء على البغضاء والعنف وتحقيق الرفاه. كما تتوعد المتلاعبين بالقانون بحلول اللعنة الإلهية عليهم.
ومن الواضح أن الملك حمورابي قد استفاد من هذا التقنين حين وضعه لشريعته خاصة في ميدان تأجير القوارب والأراضي الزراعية والبساتين، وعقوبة الوالد الذي يزوج ابنته لغير خطيبها.
وفي ميدان العقوبات .. مثل عقوبة الاحتفاظ بأمة أو عبد يعودان لشخص آخر، وعقوبة تأخير دفع ضريبة العقار.
وفي مجال الأسرة يبدو تأثير هذا التقنين واضحا خاصة، في قضايا حقوق أولاد الزوجتين الأولى والثانية، وحقوق الأمة التي تنجب أطفالا، ومصير الأطفال اجتماعيا، وإرث أولاد الأمة، وأولاد الزوجة غير الشرعية وغير ذلك.
- قانون اشنونا (بلالاما): لقد عثر على نسخة من هذا القانون 1945، ومن حيث تاريخ صدوره يتقدم صدور قانون حمورابي بحوالي نصف قرن.
وقد احتوى مقدمة ومتنا مكونا من 61 مادة، ويتضح تأثر حمورابي بهذا القانون من خلال قضايا الإيجار خاصة أجرة العربة وثورها والقارب وسائقه، وأجرة الخاصة والذاري وأجرة الحمار والأجير.
وفي ميدان العقوبات.. مثل عقوبة السائق الذي يتسبب في غرق القارب، عقوبة سرقة حقل أو دار ليلا، وعقوبة سرقة العبد وعقوبة من يطلق زوجته التي لها أولاد.
وفي حالات الأسرة، يتضح التأثر من خلال مصير المهر عند وفاة أحد الزوجين، والزواج وإجراءاته، والرضاعة والتربية، وغيرها..
ثانيا: مضمون مدونة حمورابي
صدرت مدونة حمورابي في بابل 1738-1668 ق .م .وهو الملك الذي وحد كل دويلات ما بين النهرين تحت سلطانه وانشأ إمبراطورية تمتد من صحراء سوريا حتى جبال زاجروس ومن الخليج العربي حتى أعالي نهر الفرات وكان مركزها مدينة بابل على نهر الفرات. وكان لهذه الإمبراطورية سلطان ونفوذ سياسي وتجاري وثقافي واسعين في منطقة الشرق الأدنى سواء على الساحل السوري من البحر الأبيض أم في بلاد عيلام علي حدود الهضبة الإيرانية من ناحية الغرب، وقد اصطبغت بلاد ما بين النهرين كلها بالصبغة السامية منذ الألف الثالثة قبل الميلاد وكتبت السيادة للجنس والثقافة الساميين حني سقوطها في أيدي الفرس بعد منتصف القرن السادس قبل الميلاد ولم تتحرر إلا علي يد الفاتحين المسلمين.
لقد عثر علي مدونة حمورابي في مدينة سوز (سوس) 1901 -1902 علي اليد البعثة الفرنسية التي قامت بتلك الحفريات وكانت نصوصها باللغة الأكادية وبالكتابة المسمارية. وتمت ترجمتها إلى اللغة الفرنسية .
وجدت نصوص هذا القانون منقوشة علي حجر أسود اللون يبلغ ارتفاعه مترين، وما يزال محفوظا في متحف اللوفر بباريس. ولما كان ملك عيلام قد احتل بابل في العام 1170 كان ذلك سببا لوجود المسلة في عاصمته لأنه اعتبرها غنيمة . وقد تم الحصول علي أكثر 20 نسخة من هذه المدونة، في بلاد ما بين النهرين وخارجها.
مدونة حمورابي تعتبر أهم المدونات التي ظهرت في العراق القديم ،وإن لم تكن هي الأولي بل تعتبر أشهر مدونة في تاريخ الشرق القديم و من أعظم المدونات في العالم القديم كله.
لقد تم تطبيق تقنين حمورابي في العهود التالية لعهد دولة بابل بدليل وجود نسخ بلغات غير الأكادية مثل الأشورية والكلدانية .كما أن البلاد المجارة قد تأثرت بأحكامها مثل بلاد عيلام والساحل السوري وبلاد وادي النيل.ونظرا لدوره في الشرق الأدنى اعتبره الكثير من الكتاب بمثابة قوانين نابليون في العصر الحديث.
أما الغرض من وضع المدونة فهو السعي إلي توحيد البلاد من الناحية القانونية خاصة وإن سكان تلك البلاد مثل ما مر علينا كانوا موزعين على دويلات خاضعة لأمراء وملوك متعددين ولكل منها قانونها وديانتها الخاصة.ورغم نجاح بعض الملوك في إخضاع المدن والإمارات المجاورة له ،وتكوين دولة واحدة قوية تضم كل أو بعض بلاد ما بين النهرين، إلا أن اختلاف الأجناس يعوق اندماج السكان وانصهارهم في بوتقة واحدة (السومريون،الساميون وحتى قبائل الهند التي كانت تجتاح البلاد من وقت لآخر).
إن اصطباغ البلاد بالصبغة السامية بلغت ذروتها في عهد حمورابي حيث الحكومة المركزية الواحدة واللغة الأكادية هي اللغة الرسمية الوحيدة وظهرت ديانة عامة واحدة هي ديانة مزدوك اله بابل، بذلك أصبحت كل بلاد ما بين النهرين تكون دولة قومية واحدة ذات طابع سامي.
واستكمالا لتحقيق وحدة البلاد اتجه حمورابي إلى تحقيق الوحدة القانونية بين كل أجزاء ما بين النهرين ليس فقط بتجميع التقاليد العرفية التي كانت سائدة قبله بل قام بدور المصلح الاجتماعي إلى جانب دوره كمشرع.
وهو من ناحية وضع حلولا مبتكرة تستجيب للتطور الاجتماعي والاقتصادي وعمم تطبيقها، ومن ناحية أخرى عمد إلى انتقاء بعض العادات والتقاليد العرفية ليعمم تطبيقها أيضا ،وغالبا ما كان يفصل العادات السامية عن العادات السومرية ،لكنه كان في بعض الأحيان يضطر إلى وضع حكمين مختلفين للمسألة الواحدة أحدهما من أصل سامي ،والثاني من أصل سومري مراعاة لمشاعر وتقاليد السومريين وخاصة في مسائل الزواج.
كما عمد حمورابي من ناحية ثالثة إلى تقرير أحكام صريحة في خصوص الموضوعات التي كان العرف غامضا بشأنها أو كانت أحكامها تثير خلافا بين المفسرين .
-من حيث الشكل : تتكون نصوص مدونة حمورابي من 282 مادة مسبوقة بديباجة وتليها خاتمة. وفي أعلى النقش نجد رسما يصور إله الشمس \\\"الإله شمس\\\" القاضي الأكبر للسماوات والأرض ممسكا بكتاب وأمامه حمورابي ينصت في خشوع واحترام إلى ما يمليه عليه من نصوص القانون .
وفي ديباجة القانون يعلن الملك حمورابي و بأسلوب أدبي رائع،الأسباب الموجبة التي دفعته إلى إصدار قانونه كما تناول تمجيد الآلهة التي اختارته لنشر العدالة \\\"أسمياني الإلهان آنو وانليل باسمي حمورابي، الأمير التقي الذي يخشى الآلهة، لأوطد العدل في البلاد، لأقضي على الخبيث والشر، لكي لا يستعبد القوي الضعيف... ولكي ينير البلاد من أجل خير البشر، أنا حمورابي الراعي المصلح الورع، المنقذ لشعبه من البؤس.. الذي ساعد على إظهار الحق.. المنتصر على المشاغبين، وضعت القانون بلسان البلاد لتحقيق خير الناس...\\\"
وفي الخاتمة يطالب الناس باحترام قانونه ويعد من ينفذه مثوبة الآلهة، وتوعد المخالفين بعذاب عظيم منها .
أما مواد القانون فقد تعرضت بإيجاز للتنظيم القضائي وإجراءات التقاضي القانون الجنائي ، ملكية الأراضي ، أهم العقود، الزواج والأسرة والإرث.
و يمكن القول أن المدونة لم تختلف كثيرا عن الهيئة التي ظهرت بها المدونات المنسوبة لأسلافه، حيث ظهرت في صورة وحي الهي صادر من الآلهة إلى الملك،فسلطات الملك ذات أصل ديني ومنها سلطته التشريعية مما أثار البحث حول طبيعة مدونة حمورابي . وبالرغم مظهرها الديني إلا أن الرأي السائد بين الباحثين ينفي عنها صفة القانون الديني فهي تكاد تكون خالية من الأحكام الدينية ولا تخلط بين الجزاء المدني و الجزاء الديني.
- من حيث المضمون : سبق وأن قلنا أن حمورابي رغم استفادته من القوانين التي سبقته إلا أنه لم يقتصر عليها، بل إنه عدل وبدل وأضاف لها الكثير مما رآه مناسبا وخادما هدفه في توحيد القوانين ونشرها، ولذا يمكن القول أن التقنين تضمّن:
- ما وجده حمورابي صالحا من القواعد العرفية والتشريعية التي سادت العهود السابقة له.
- الإصلاحات والتعديلات التي أجراها على بعض الأحكام الشرعية والعرفية.
- الأحكام المبتدعة التي وضعها لمعالجة الحالات المستجدة والتي استمدها من إصلاحاته أو من الأحكام القضائية.
- القواعد العرفية والتشريعية التي أزال غموضها وسد النقص الذي اعتورها. فرغم أن المدونة خلت من القواعد والمبادئ العامة فقد اتجهت إلي وضع الحلول الفردية حيث تعرضت لكل حالة علي حدة لتعطي الحكم المناسب.
ومن هنا فهي (المدونة) تعطينا صورة كاملة لحالة المجتمع البابلي وأحكامها تظهر أنها أحكاما سبقت زمانها،وان المجتمع البابلي وصل إلي درجات متقدمة من المدنية إذ اعترفت المدونة بالملكية الفردية وحرية التعاقد وقررت الأهلية للمرأة.
وقد تميزت مدونة حمورابي وعدت متفوقة في عدالتها وتقدمها علي أحكام كثير من المدونات التي صدرت في بلاد الغرب بعد ذلك بقرون عدة مثل (مدونة الألواح ألاثني عشر عند الرومان في القرن 5ق م).
هذا وقد توزعت مواد شريعة حمورابي على ثلاثة عشر قسما وهي على الوجه التالي :
القسم الأول : يحتوي علي المواد 1-5 وهي تتعلق بالقضاء والشهود
القسم الثاني : يحتوي على المواد 6-25 وهي تتعلق بالسرقة والنهب
القسم الثالث : يحتوي على المواد 26-41 وهي تتعلق بشؤون الجيش
القسم الرابع : يحتوي على المواد 42-100 تتعلق بشؤون الحقول والبساتين والبيوت
القسم الخامس: يحتوي على المواد 100-107 يتعلق بالقروض ونسبة الفائدة والتعامل مع التجار
القسم السادس : يحتوي على المواد 108-111 ويتعلق بالخمر
القسم السابع : يحتوي على المواد 112-126 يتعلق بالفرد والديون
القسم الثامن : يحتوي على المواد 127-194 خاص بشؤون الأسرة الزواج ، الطلاق الإرث ، التبني ، التربية وكل ماله صله بالروابط العائلية والإنجاب
القسم التاسع : يحتوي على المواد 195-214 وتتعلق بعقوبات القصاص والغرامات المفروضة على الأضرار التي يحدثها الأفراد بعضهم لبعض عند التشاجر
القسم العاشر : يحتوي على المواد 215- 227 وهي تتعلق بالطب والطبيب البيطري و الواسم
القسم الحادي عشر : 228-240 وتتعلق بالأسعار وتعين أجور بناء البيوت والقوارب والصناع والرعاة وعقوبات الإخلال بالالتزام
القسم الثاني عشر : يحتوي على المواد 241-277 ويتعلق بأجور الحيوانات والإجراء
القسم الثالث عشر : يحتوي على المواد 278-282 وتتعلق بشراء العبيد وعلاقتهم بأسيادهم .
***********
يتبع