فكرة "الشمولية المنهجية" بين التحليل المدرسي والتحليل النقدي
(2 - التحليل النقدي)
د. محمد مريني
2-المقاربة النقدية:
تباينت مواقف الباحثين من "التكاملية" كمنهج في النقد الأدبي:
2-1-هناك من النقاد من يرى أن المناهج النقدية تتكامل، ويتناسل الواحد منها في الآخر. في المقابل، يرى آخرون أن مبدأ التكاملية يفتقر إلى الوحدة المنهجية. بل كثيرا ما نعتت الدراسات المندرجة ضمنه "بالتلفيقية" و"اللامنهجية". وذلك بسبب غياب الخلفية الفلسفية التي تؤطر هذا التركيب، الذي تقوم عليه فكرة التكامل. قبل بسط الحديث في الموضوع أرى من المناسب تقديم بعض التوضيحات حول الأسس الإبستيمولوجية التي يفترض أن يقوم عليها كل منهج. إن أي منهج يفترض وجود دعامتين:
أ- أسس فلسفية بمثابة قواعد خلفية للمنهج، وتكون مرتبطة بشكل أوبآخر بالإيديولوجية التي يتبناها الناقد. وذلك لأنه "لا يمكن أن يوجد ناقد لا يحمل بين دفتي عقله إيديولوجية ما. لكن ما لا يجب أن يغيب عن البال أن الأثر الأدبي حامل هو أيضا للإيديولوجية""[i]
ب- مجموعة من الأدوات التحليلية والإجرائية، التي تمثل –حسب رأي الناقدة الإبستيمولوجية جوهانا ناتاليJohanna Natali - "القوانين الأساس"les codes de base[ii].، الخاصة بذلك المنهج.
فالأساس الفلسفي الذي قامت عليه البنيوية –مثلا- هو "السعي إلى تحقيق معقولية كامنة عن طريق تكوين بناءات مكتفية بنفسها لا تحتاج من أجل بلوغها إلى الرجوع إلى أية عناصر خارجية"[iii].
أما الأدوات التحليلية الإجرائية التي قدمها النقاد البنيويون لتحليل النص السردي مثلا، فتتمثل في المستويات التالية: الوظائف، الشخصيات، الفضاء، الزمن، الوصف... الخ. وإذا أخذنا تقنية الزمن –على سبيل المثال- سنجد ناقد النص الروائي، ينطلق من بعض القوانين الأساس التي وضعها البنيويون في هذا المجال. مثل: "المفارقات السردية"، "الاستباق"، "الاسترجاع"، الاستراحة"، "القطع"، "الخلاصة"، "المشهد"...وهكذا. هذه القوانين لها علاقة بالتصور الفلسفي البنيوي للظواهر والقضايا الأدبية. ومن الصعب استعمال هذه التقنيات خارج الإطار الفلسفي البنيوي.
وهكذا لو قمنا بتحليل جميع المناهج، سنجد هذين الجانبين حاضرين، ولا يمكن الحديث عن منهج نقدي في غياب الأساس الفلسفي، أوالأدوات التحليلية. من هنا نفهم طبيعة الانتقادات التي يوجهها الرافضون لفكرة "التكامل" بين المناهج. هكذا تساءل أحد هؤلاء النقاد قائلا: "كيف يمكن مثلا المواءمة والمطابقة بين منهج محايث ينظر إلى النص من حيث هو بنية مغلقة لا تحيل سوى على اشتغالها الداخلي، ومنهج يعتبر النص تعبيرا استعاريا لا شعوريا عن رغبات المؤلف الذاتية المكبوتة، ومنهج يعد النص، عوض ذلك، تعبيرا مباشرا وواعيا عن رؤية محددة للعالم لا تخص المؤلف وحده، بقدر ما بقدر ما تخص طبقة اجتماعية كاملة – أقول: كيف يمكن لنفس الناقد أن يوفق بين هذه المنهاج والتصورات المتباينة في مقاربته للنص الواحد؟ لا يمكن ذلك سوى بالتمحل والتعسف والإسقاط والتلفيق"[iv]. هذا ما ذكره أحد الباحثين في مقال تحت عنوان مثير: "المنهج التكاملي أو حين يتحول النقد إلى دعابة سمجة".
2-2-لكن، في المقابل هناك نقاد يؤكدون مشروعية الانفتاح على مصادر منهجية متعددة. وقد ظهر هذا التصور في زمن مبكر من العصر الحديث، وقد ظهرت هذه الفكرة -في البداية- عند طائفة من النقاد الذين ظلوا أوفياء للمناهج التقليدية:
نذكر من هؤلاء الدكتور شوقي ضيف، الذي دعا إلى ضرورة اعتماد مختلف المناهج في مقاربة النصوص الأدبية "إذ لا يكفي منهج واحد ولا دراسة واحدة لكي ينهض بعمله ( أي الناقد) على الوجه الأكمل، بل لابد أن يستعين بها جميعا، حتى يمكن أن يضطلع ببحث أدبي قيم … فلابد أن يتحول عقل الباحث إلى ما يشبه مرآة تعكس أضواء كل تلك المناهج، فهي تعكس فكرة الفردية والأصالة والمدرسة أو الفصيلة الأدبية، وأفكار البيئة و العصر والظروف والتطور التاريخي والحاجات الاقتصادية للمجتمع والتزام الأديب ومدى تمثله لمجتمعه، ورواسب اللاشعور الجمعي وعناصر الجمال الكلي للتعبير وموسيقاه، كما تعكس انطباعات الباحث الممتعة ، وصلة الأديب بالتراث الفني، وأيضا تحليلات لغوية ونحوية وبلاغية دقيقة …إلخ[v].
كما نذكر هنا أيضا الدكتور يوسف الشاروني الذي أعلن عن تبنيه لهذا المنهج، وكان ذلك في منتصف الستينات. يقول :
"إنني أومن بمذهب النقد المتكامل، أي أن النقد الذي يتناول العمل الأدبي بالدراسة من أكثر من ناحية، من النواحي الجمالية والاجتماعية والنفسية والتاريخية..إلخ، وعلى قدم المساواة كلما أمكن ذلك؛ وإن كان العمل الفني-وليس الناقد- يمكن أن يفرض تغلب أحد هذه النواحي على بقيتها: فالقصة النفسية يمكن أن تغلب المنهج النفسي، والقصة الاجتماعية تفرض المنهج الاجتماعي..إلخ، ولكني أعتقد أن العمل النقدي - كالعمل الفني - كلما كانت أبعاده الاجتماعية والنفسية (كذا) كان أكثر عمقا "[vi].
بالإضافة إلى هؤلاء النقاد ظهرت فكرة "التكاملية" عند نقاد معروفين بتوجهاتهم النقدية الحداثية: يرى الدكتور محمد مفتاح أن التكاملية في المناهج لا تؤدي إلى التلفيقية والانتقائية بالضرورة "لأن آفة الانتقائية لا تصيب إلا من كان ساذجا مؤمنا إيمانا أعمى بما يقرأ، غير متفطن للظروف التاريخية والإبستيمية التي نشأت فيها النظريات، وغير قادر على تمييز الثوابت من المتغيرات في كل منها، وعلى ما تجتمع عليه وتفترق "[vii].
كما دافع أحد الباحثين عن فكرة التكامل بين المناهج بالنظر إلى الوضعية الخاصة للناقد العربي، فهو يشعر بأن الكتابة الإبداعية العربية ليست هي الكتابة الإبداعية الغربية، لذلك فهو يركب من الأدوات المنهجية المتاحة ما يراه ملائما لتحليل إبداع محيطه الخاص. يقول:
" ماذا تبقى للناقد العربي إذن؟ أين هو المجال الذي يمكنه أن يبرز فيه عبقريته وقدراته الخاصة؟ إن الناقد العربي لا يستطيع أن يؤكد ذاته إلا من خلال منظور تركيبي جديد يراه ضروريا لتطويع النقد الغربي من أجل دراسة الأعمال الإبداعية العربية. إن التمثل هما قدر الناقد العربي – على الأقل في الوقت الراهن– وعليه أن يظهر من خلالهما إسهام العبقرية العربية في مسيرة النقد المعاصر "[viii].
أخيرا وليس بآخر يمكن القول: إن هذه المقاربة النقدية القائمة على التركيب بين مختلف المناهج النقدية تؤكد الفرضية التي وضعها "ستانلي هايمن" منذ وقت مبكر، حين تحدث يوما عن "ناقد مثالي" يمارس عملية التحليل اعتمادا على خطة منظمة "تكون تركيبا لكل الطرق والأساليب العلمية التي استغلها رفاقه الأحياء"[ix]. ولذلك فإن رؤيته المنهجية تكون منفتحة على "جميع تلك الوسائل المتضاربة المتنافسة"[x]، يركب منها خلقا سويا لا تشويه فيه. هذه العملية التركيبية ينبغي أن تتم - في نظره - "حسب خطة منظمة ذات أساس أو هيكل مرسوم"[xi].
[i] جورج طرابيشي، الأدب من الداخل، دار الطليعة – بيروت ، ط1 ، 1968.
[ii]Johanna Nathali à propos des chats de Baudelaire ; p : 103-104.
[iii]د. فؤاد زكرياء، الجذور الفلسفية للبنائية، دار قرطبة ، الرباط ، 1986، ص: 8
[iv]رشيد بنحدو، المنهج التكاملي أو حين يتحول النقد إلى دعابة سمجة، ضمن كتاب: النقد الأدبي بالمغرب (مسارات وتحولات)، منشورات رابطة أدباء المغرب، ط1: 2002، ص:93.
[v]د شوقي ضيف ، البحث الأدبي ، دار المعارف – القاهرة 1972 ، ص : 144-145
[vi]د. يوسف الشاروني ، دراسات في الرواية والقصة القصيرة ، م . الأنجلو المصرية 1967 ، ص :4
[vii]د . محمد مفتاح ، تحليل الخطاب الشعري . المركز الثقافي العربي ط 1، 1985ص : 7
[viii]د حميد لحمداني، النقد الروائي والإيديولوجيا، المركز الثقافي العربي، البيضاء، 1991.ص:45.
[ix]ستانلي هايمن، النقد الأدبي ومدارسه الحديثة، ترجمة: إحسان عباس، محمد يوسف نجم، ج 2 ، دار الفكر العربي، القاهرة، ص: 245