أثناء بحثي أثارتني هذه القصة المنقولة و بتصرف فأبيت الا أن أضعها بين أيديكم لتقولوا كلمتكم فيها
وُلدت قبل خمسة وعشرين سنة وسط أربعة إخوة ذكور بمدينة وزان. أحسست منذ بداية وعيي بالحياة أنني لم أكن أمثل سوى عقوبة لوالدتي التي كانت ترغب في إنجاب طفل ذكر خامس لتتوقف عن الإنجاب، غير أنني خيبت أملها وأمل والدي الذي لم يبتسم في وجهي يوما. الفتاة بتلك المنطقة كانت نذير شؤم على شرف العائلة! أدركت منذ طفولتي صعوبة أن تكون أنثى وسط عائلة من الذكور. عشت الجحيم بين إخوة لا يحسنون سوى إعطاء الأوامر وإحصاء أنفاسي. كانت كل حركاتي مراقبة وكل كلماتي محسوبة، حتى صديقاتي لم يكن لدي الحق في اختيارهن لأن أمي سرعان ما كانت تجد ألف عذر وعذر لتمنعني من رؤيتهن. لم أكن أملك الحق في الحديث بحضور والدي أو إخوتي أو حتى الخروج من المنزل بدون إذن والدتي ومرافقة أحد إخوتي لي في رحلتي حتى وإن كانت مجرد الذهاب إلى الحمام العمومي وإذا ما حاولت التمرد أو الرفض فالعصا كانت دائما مصيري.
لم أكد أصل إلى مستوى الرابعة إعدادي حتى فرض علي الزواج بابن عم والدتي، شاب طويل نحيل أشقر يعمل بالجندية. لم أستطع إبداء رأيي في هذا الزواج ولم أكن أرغب في ذلك، لأنني رأيت فيه فرصة للهرب من الجحيم الذي كنت أعيشه وسط عائلتي. لكنني اكتشفت فيما بعد أنني كنت واهمة لا غير، فلم أكد أتحرر من قبضة إخوتي حتى أقفل علي زوجي-قريبي باب الغرفة التي سكناها بثكنة عسكرية بمدينة ميسور بعدما انتقلنا إليها مباشرة بعد الزواج.
عدت منذ اليوم الأول من زواجي إلى العمل كخادمة تماما كما كنت ببيت أهلي. أنظف، أطهو، أغسل وأكنس ولا أملك حق الراحة أبدا. أدركت أنني غيرت سجن بيت والدي بسجن أصغر منه وأحقر. كان زوجي يمارس علي العنف بأبشع مظاهره فكلما تعرض لمشكل في عمله إلا وعاد غلى البيت غاضبا يتحين الفرص للبطش بي. كان أحيانا يضربني حتى يغمى علي وأحيانا كان الجيران ينقذونني بعد سماع استنجادي بهم. لكنني لم أكن أملك غير الصبر ولا شيء غيره لأنني كلما حاولت إخبار والدتي عبر الهاتف إلا وذكرتني بالستر الذي أتمتع به في حين أن ابنة فلان أو علان بلغت الخامسة أو السادسة والعشرين ولازالت "بايرة" ثم ما تفتأ تذكرني بإخوتي وما يمكن أن يفعلوه بي إن علموا بأنني أشتكي من زوجي وتنهي كلامها قائلة "ها السخط ها الرضا!.."
لم تك تمر سنة واحدة على زواجي حتى حملت، عانيت كثيرا خلال أشهر الحمل لأنني كنت مطالبة بإنجاز أعمال المنزل جميعها خصوصا في الأشهر الأخيرة. تحملت من الإهانات والصفعات ما لا يحصى وتدبرت أمر معيشتي بشتى الطرق في الوقت الذي كان زوجي يصرف ماله في شرب الخمر ومعاشرة أصدقاء السوء. جاءت ابنتي إلى هذه الدنيا في غياب والدها الذي كان في مهمة خارج المدينة. لم أحس يوما بالذل كما أحسست به يوم ولادتها، لم يكن إلى جانبي وأنا أضعها غير جارة لي لا تتكلم سوى الأمازيغية، سمعت صراخي فطرقت الباب وساعدتني على الوضع رغم أنني لم أعرف كيف أتفاهم معها، أحسست يومها باليتم وبالسخط على العالم كله.
أنجبت في ظروف غير صحية دفعت ابنتي ثمنها حيث اكتشفت فيما بعد أنها مصابة بإعاقة دائمة في المشي. انتظرت عودة والدها حتى يسرع بطفلتنا إلى المستشفى لكنه لما علم أنني قد أنجبت مولودا أنثى وليس ذكرا رفض الرجوع إلى البيت ورفض إقامة حفل "السبوع" لابنتي-ابنته. رأيت الشفقة في عيون النساء اللائي كن يزرنني ولم أتحمل جمعهن لبعض المال من إقامة "السبوع" لتسمية ابنتي. ناشدت عائلتي التدخل فتم رجوع زوجي إلى البيت ليهجره ثانية دون الالتفات إلى ابنتنا.
انتهزت فرصة غيابه في مهمة خارج المدينة فحملت ابنتي وحقيبتي وغادرت في اتجاه بيت أسرتي بوزان. لكن الأمان الذي كنت أنشده بينهم تحول إلى كابوس مرعب تجرعت مرارته طيلة خمسة عشر يوما كاملة. ما إن وصلت البيت حتى استنكر إخوتي هروبي من منزل زوجي وانهال علي الأكبر صفعا وضربا مما تسبب في كسر بساقي اليمنى، لم يكتف بذلك بل وصلت به القسوة إلى أن ربط رجلي بقيد حديدي كذلك الذي تقيد به البهائم، معللا الأمر بخوفه من هروبي قبل أن يحضر زوجي لاصطحابي. كنت لا أرى في عيون إخوتي غير السخط ولا أسمع منهم سوى الشتم والسب لأنني كنت بالنسبة لهم عارا يريدون التخلص منه بسرعة. عشت لحظات قاسية، فكرت في الانتحار لكن خوفي على مستقبل ابنتي كان يمنعني من ذلك. كنت أحس أنني بدون وجود، بدون كرامة، بدون كيان ولا آدمية... إنسانيتي أصيبت في الصميم وعزة نفسي كذلك. كنت أبكي بصمت، بدون دموع.. كنت لا أنام إلا لماما وتمنيت أن ينقضي ذلك الكابوس المرعب مهما كلفني من ثمن. أردت أن أطلب الطلاق لكن والدتي منعتني من مجرد التفكير في ذلك...
عدت مجبرة إلى بيت زوجي الذي لم يفته بدوره النيل مني وتعنيفي وقطع المصروف عني وعن ابنتي. لم أكن أجد ما أسد به رمقي وإطعام ابنتي لولا المساعدات الخفية التي كانت جاراتي يقدمنها لي والحوالة المالية التي كانت ترسلها والدتي من حين لآخر. قضيت سنة أخرى من الجحيم بميسور لكنني لم أستطع تحمل المزيد من العذاب والمزيد من العنف والقسوة والبؤس والجوع...
استغللت يوما فرصة تواجد قائد الثكنة بالقرب من بيتي فشكوته زوجي ووعدني بالتحدث إليه لكن النتيجة كانت مفجعة، فزوجي لم يقبل تدخل رئيسه في حياته الشخصية فغضب حتى الجنون وصب جام غضبه علي، حتى تحول لون قميصي إلى الأحمر بسبب نزيفي. بدأ يكسر الأواني وكل ما يقع تحت يديه ويتلفظ بكلام نابي لم أسمعه في حياتي، وفي لحظة من لحظات جنونه، رأيته يحمل ابنتي التي كانت تبكي وتصرخ وأراد أن يطوح بها. لم أتمالك نفسي وأخذت أقرب شيء كان إلي وضربته على رأسه وكان هذا الشيء قارورة زجاجية فارغة. حملت ابنتي ولبست جلبابي على عجل وخرجت. غادرت المدينة هائمة على وجهي، مخلفة ورائي كل الذل والإهانات والجوع والعنف الذين عشتهم معه.
أعيش اليوم بمدينة الحسيمة، وأجهل تماما ما حل بزوجي. أجهل ما إذا كنت طالقا أم لا، أجهل كل شيء عن عائلتي. أنا الآن أعمل لدى عائلة أجنبية تمدني بدخل قار وتساعدني على تربية ابنتي.
تسجلت في مركز لتعليم اللغات ليلا وأقرأ بنهم كبير. أريد أن أعوض ما فاتني، أريد أن أستنشق الحرية، أريد أن أرمم كل تلك الفوضى التي كانت بداخلي. كل أملي الآن هو أن أتوفق في تربية ابنتي ذات الأربع سنوات، أن أعلمها الثقة بنفسها وألا أفرض عليها أي شيء أبدا المهم هو أن أجعلها تحب نفسها كامرأة وأن تتقبل إعاقتها الجسدية.