يتزايد الاهتمام اليوم بقضايا المكونات الاجتماعية والثقافية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بعد ربيع ثورات الشعوب الذي من اهدافه ليس تغيير الانظمة الاستبدادية الشمولية فحسب، بل أيضا التحرر من النزعة الأبوية - البطريركية والعقلية الاستبدادية التقليدية والتحول الى فضاء الحرية والتعددية والديمقراطية والتسامح واحترام حقوق الانسان واعادة النظر باوضاع وحقوق المكونات الاثنية والدينية والثقافية. وتأتي قضية الامازيغية في شمال افريقيا في مقدمة القضايا الحساسة التي تحتاج الى دراسات وبحوث ومناقشات لتوضيح ابعادها التاريخية والاجتماعية والثقافية.
الامازيغ اسم يطلق على من يتكلم " الامازيغية "، و هم السكان الأصليون في الشمال الافريقي ، الذين ينتشرون في مساحة تمتد من واحة سيوة على مشارف مصر شرقا ، حتى المحيط الاطلسي وجزر الكناري غربا ، وعلى امتداد الصحراء الكبرى والساحل الافريقي حتى موريتانيا ومالي والنيجر جنوبا . وقد اشار المؤرخ الجزائري عبد الرحمان الجيلاني في كتابه " تاريخ الجزائر العام" الى ان اول من عرف في التاريخ المسجل من سكان هذا الوطن ، انما هم الأمازيغ الذين ينتشرون بصورة خاصة ، في بلدان المغرب والجزائر وتونس وليبيا حتى مصربالإضافة إلى موريتانيا ودول الصحراء ....
ترجع أقدم الكتابات عن الأمازيغ إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد ، وهي كتابات وجدت عند المصريين القدماء . ويعرف الأمازيغ في الفترات التاريخية بأسماء مختلفة منها الليبيون ، النوميديون ، الجيتوليون ، المور، البربر، غير أن إسمهم الأصلي هو الأمازيغ .
و كلمة أمازيغ في اللغة الامازيغية تعني الانسان الحر النبيل . وقد وردت كلمة امازيغ في النقوش المصرية القديمة وكذلك في المؤلفات اليونانية والرومانية . وكان الرومان يطلقون على القبائل المنتشرة في الشمال الافريقي اسم berber وهي من أصل يوناني barbarian البرابرة- كما يطلقونه على كل من هو غير روماني . وقد تطور معنى الاسم في وقت لاحق فاصبح الاجانب بصورة عامة . وكان العرب قد اطلقوا على جيرانهم اسم " العجم" ثم اصبح معناه بعد ذلك كل من هو غير عربي
اخذت كلمة " البربر" عند الرومان معنى سياسيا واطلقت على الشعوب التي تقف في مرتبة حضارية ادنى منهم ، ثم اخذت الكلمة معنى اكثر خصوصية حين اطلقت على
البلدان التي خرجت على طاعة الرومان فسموا برابرة Barbarikum او" بلاد البربر" وخاصة نوميديا Nomidae او دولة البرابرة . وعندما غزاالعرب شمال افريقيا حافظوا على اسم " البربر" ولم يغيروه لذيوعه وانتشاره بينهم ...
وتبرز في مجال البحث حول الأصول التاريخية للأمازيغ اتجاهات عديدة ، أولها أولئك الذين تأثروا باتجاهات المدارس الغربية والدين يرون أن أصل الأمازيغ إنما يتأصل في أوروبا ، إذ ثمة معطيات لغوية وبشرية تشير إلى أن الإنسان الأمازيغي له صلة بالجنس الوندالي المنحدر من ألمانيا حاليا ، وسبق له أن استعمر شمال أفريقيا.
ويستند هذا الطرح إلى وجود تماثلات لغوية بين الأمازيغية ولغة الوندال الجرمانية من جهة ، وإلى التشابه الذي يوجد بين بعض ملامح الأمازيغ والأوروبيين مثل لون العيون والشعر من جهة أخرى...
و اشار احد علماء الانثروبولوجيا الايطاليين ، الى ان الأمازيغ في الاصل ، وبصورة خاصة الطوارق منهم ، من جنوب ايطاليا ، وكانوا قد نزحوا الى هذه المنطقة عبر البحر الابيض المتوسط في عصور غابرة . كما يرجع بعض علماء الاثنولوجيا اصلهم الى اجناس اوربية مختلفة استقرت في شمال افريقيا منذ قديم الزمان واختلطت بعضها مع البعض الآخر عن طريق الاتصال الحضاري وكونوا في الاخير جنسا له خصائص متشابهة ، كما هي البيئة تاريخيا ، اختلط الامازيغ بشعوب واقوام عديدة ومختلفة ، منهم الفينيقيين واليونانيين والايطاليين ، اختلاطا عابرا ، غير انهم اختلطوا وامتزجوا بالمصريين القدماء والعرب والمسلمين بشكل اقوى . وقد اعتقد بعض المؤرخين ، ومنهم الطبري والجرجاني والمسعودي وابن الكلبي وغيرهم ، بان قبائل صنهاجة وقتامة من حمير، غير ان العلامة ابن خادون اعتبر في مقدمته المعروفة هذه الاخبار واهية وبعيدة عن الصحة وعريقة في الوهم والغلط وهي اشبه بقصص موضوعة ....
ويميل اتجاه آخر إلى بناء وجهة نظره على بعض الكشوفات الأركيولوجية والأنثربولوجية، إذ يفترض أنه تم العثور على أول إنسان في التاريخ في بعض مناطق أفريقيا (مثل كينيا وبتسوانا) ، وبالتالي فالإنسان الأمازيغي لم يهاجر إلى شمال أفريقيا من منطقة ما ولكنه وجد فيها منذ البداية ، والإنسان الذي عثر عليه يترجح أن يكون من السكان القدامى ....
ولا يمكن تقرير شيء مؤكد فيما يتعلق بالأصول الأجناسية واللسانية للأمازيغ ، ويجب الاكتفاء بالقول إن الأمازيغ اسم يطلق على أقدم السكان المعروفين عند بداية الأزمنة التاريخية في الشمال الأفريقي وكانت لهم علاقات بالفراعنة المصريين، أحيانا سلمية وأحيانا حربية. وهم أنفسهم الذين وجدهم الفينيقيون واليونان الذين استقروا في "برقة"، والقرطاجيون والرومان. واللغة التي كانوا يتكلمونها لا تزال هي اللغة التي يتكلم بها عدد من القبائل الأمازيغية اليوم.
وضمن كل هذه الاتجاهات يسعى الأمازيغ إلى التأكيد على استقلالية لغتهم وأصولهم التاريخية باعتبارها رموزا للهوية الأمازيغية.
عاصر الأمازيغ أقوى دول العالم القديم بل لقد لعبت تلك القوى دورا فعالا في تاريخهم فتفاعلوا معها ثقافيا وعسكريا وتعتبر قرطاج نموذجا للتفاعل بين الأمازيغ والفينيقيين, وتعتبر قورينا نموذجا للتفاعل بين الأمازيغ والأغريق القدماء. ومثلما تفاعلوا مع الأغريق والفينيقيين تفاعلوا مع الرومان حتي أن قرطاج الرومانية كانت أقوى مدينة بعد روما عاصمة الرومان، فنبغ الأمازيغ في جامعتها ونذكر منهم القديس أوغسطين، وترتوليان وأبوليوس.
لعب الأمازيغ أيضا دورا فعالا في المؤسسات السياسية فتميز الأمازيغ بقوتهم في الجيش الروماني حتى أن ثلاثة قياصرة رومان كانوا من أصل أمازيغي وهم سبتيموس سيفاريوس وابنه كركلا وقريبه ماكرينوس.
عمل الأمازيغ على بناء الحضارة في شمال افريقيا ، بالتعاون مع الاخرين او لوحدهم ، مثلما شاركوا في تطوير وبناء حضارة مصر القديمة حيث حكم الأمازيغ فيها ما يقارب ثلاث قرون . وكان الملك شنشنق الاول ، مؤسس الاسرة الثانية والعشرين الفرعونية أمازيغي الاصل بحدود 950 ق. م وساهم في تطوير الحضارة المصرية القديمة في عصورها المتأخرة ، كما شارك الأمازيغ في بناء وتطوير قرطاجة وحضارتها مع الفينيقيين الذين وصلوا الى ما يدعى اليوم بمدينة تونس وشاركوا معهم في الفتوحات القرطاجية وكذلك في العمران ، مثلما شارك القرطاجيون الأمازيغ بعقائدهم القديمة ، وبخاصة في عقيدة " آلهة الخصوبة " الأمازيغية وممارسة الوشم الذي عكس فلسفة خاصة بهم ارتيطت بمعتقدات وطقوس دينية كان من اهدافها ابعاد الروح الشريرة عن الانسان والاشياء ...
يعود أصل شيشنق إلى قبيلة المشوش, وهذه القبيلة هي على الأرجح من تونس الحالية ويمكن ملاحظة بعض التشابه الثقافي بين أمازيغ الجزائر والمشوش.
يعتقد المؤرخون أن التفسير الأمازيغي العامي ليس تاريخيا علميا، فبعض الباحثين يعتقدون أن التقويم الأمازيغي قد يعود ألى آلاف السنين حتى أنه قد يكون أقدم من التقويم الفرعوني.
ومن الدول التي لعبت دورا هاما في تاريخ شمال افريقيا قديما هي دولة "نوميديا" الأمازيغية التي تأسست بعد سقوط قرطاجة عام 146ق. م. وكانت عاصمتها قرطبة
التي تعرف اليوم بقسنطينة التي تقع في الشمال الشرقي من الجزائر، وامتد نفوذها الى شرشال عاصمة موريتانيا جنوبا وطنجة في المغرب شمالا. وكان ماسنيسا قد أعاد الاهتمام بحروف تيفيناغ الأصيلة ، واتخذ من الزراعة حرفة للقبائل المتنقلة بدل الرعي والترحال . وقد تطور في نوميديا اقتصاد زراعي وتجارة نشطة وجيش قوي يسنده اسطول بحري . وقد ضرب ماسنيسا السكة باسمه وعمل على توحيد الشمال الافريقي كله . وقد استمر حكمه ثلاثين عاما (146- 118ق.م ).
غير ان ماسنيسا لم يستطع التحرر من السيطرة الرومانية. وعندما اختلف اولاده الثلاثة على السلطة من بعده ، ارسلت روما بعثة عسكرية قسمت البلاد بين اثنين من اولاده . غير ان يوغرطة ، احد الاولاد الثلاثة ، اضطر الى مقاومة الرومان عام 109 ق.م وقاد ثورة عارمة ضدهم واستطاع تحرير القسم الشرقي من البلاد وهزم الرومان ودحرهم الى الجبال ، ثم طردهم منها ووحد بلاد افريقيا. وقد انتهت حياة يوغرطة ، الذي ما زالت ذكراه حية في قلوب الأمازيغ كبطل قومي اسطوري ، في حفلة غدر وتآمر اقامها القائد الروماني سولا، بالتعاون مع بوكوس ملك المغرب ، حيث دعي الى حفلة عشاء فقبض عليه وصلب في شوارع روما عام (105ق.م). وما زال الأمازيغ يرددون مقولته الشهيرة " روما ايتها الملعونة ، لو وجدت من يشتريك لبعتك في الحال" ...
تختلف العادات الأمازيغية من منطقة وحقبة زمنية ألى أخرى . عبد الأمازيغ القدماء كغيرهم من الشعوب الأرباب المختلفة ، فبرز من معبوداتهم تانيث وآمون وأطلس وعنتي وبوصيدون .... ومن خلال دراسة هذه المعبودات وتتبع انتشارها في الحضارات البحر الأبيض المتوسطية يمكن تلمس مدى التأثير الثقافي الذي مارسته الثقافة الأمازيغية في الحضارات المتوسطية . ويمكن أعتبار آمون وتانيت نموذجين لهذا التأثير الحضاري.
عبد الأغريق آمون الأمازيغي ، وفي ما بعد شخصوه بكبير آلهتهم زيوس كما شخصه الرومان في كبير ألههم جوبيتر وفي ما بعد أحدثوا بينهم وبين آمون تمازجا ، كما مزجه البونيقيون بكبير آلهتهم بعل . بالأضافة ألى هذا فقد كان آمون أعظم آلهة مصر وإلى وقت كان يعتقد أن آمون مصري الأصل على الأرجح غير أنه في ما بعد أصبح يرجح الأصل الأمازيغي له حسب الأستاذ غابرييل كامبس
وتانيث هي ربة الخصوبة وحامية مدينة قرطاج ، وهي ربة أمازيغية الأصل عبدها البونيقيون كأعظم ربات قرطاج وجعلوها رفيقة لكبير ألههم بعل ، كما عبدها المصريون القدماء كأحد أعظم رباتهم وقد عرفت عندهم باسم نيث ، ويؤكد أصلها الأمازيغي (الليبي) ما أشار أليه الأستاذ مصطفى بازمة من أن معظم مؤرخي مصر الفرعونية أشاروا إلى أنها معبودة أمازيغية استقرت في غرب الدلتا. ثم عبدت من طرف الإغريق حيث عرفت بإسم آثينا بحيث أشار كل من هيرودوت وأفلاطون أنها نفسها نيث الليبية ، وقد سميت أعظم مدينة إغريقية إلى هذه الربة الأمازيغية أثينا. أما تأثير هذه الربة في بلاد الأمازيغ يتجلى في ما يعتقده البعض من أن تونس قد سميت نسبة إلى هذه الربة تانيث ، بحيث أن الأسم القديم لتونس كان هو تانيس مما جعلهم يعتقدون أن الإسم مجرد تحريف للثاء إلى السين . ويرجح المؤرخون أن هذه الربة قد عبدت في تونس الحالية حول بحيرة تريتونيس حيث ولدت وحيث مارس الأمازيغ طقوسا عسكرية أنثوية تمجيدا لهذه الربة.
إلى جانب هذه الآلهة عبد الأمازيغ أيضا الشمس وهو ما ذكره هيرودوت وابن خلدون كما مارسوا العبادة الروحية التي تقوم على تمجيد الأجداد كما أشار إلى ذلك هيرودوت.