الفصل الأول : تعريف علم الاقتصاد .
الفصل الثاني : الفكر الاقتصادي في العصور القديمة و الوسطى
- المبحث الأول: في العصور القديمة.
- المبحث الثاني : في العصور الوسطى
الفصل الثالث: مدرسة التجاريين.
الفصل الرابع: المدرسة الطبيعية.
الفصل الخامس: المدرسة الكلاسيكية.
الفصل السادس : المدرسة الكينزية
المراجع:
كتاب أصول الاقتصاد للدكتور السيد عبد المولى
كتاب مبادئ علم الاقتصاد للدكتور عادل أحمد حشيش
و زينب حسين عوض الله .
بعد بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: منذ أن وجدت المجتمعات البشرية أحست بحقيقتين هامتين
الأولى: تعدد الحاجات و تزايدها مع الوقت
الثانية : محدودية الموارد الموجودة تحت تصرفها إذا قيست بهذه الحاجات المطلوب إشباعها .
و من ارتباط هاتين الحقيقتين نشأت المشكلات و الظواهر الاقتصادية . و قد حاولت الإنسانية دائما أن تلتمس في هذه المدارس و النظم حلا لمشاكلها الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية. و كانت في سبيل ذلك تستبدل مدرسة بمدرسة و نظاما بنظام .
و الحقيقة أن تحديد نوعية النظام الاقتصادي و تطوره كان عبارة عن جدال و صراع بين الاقتصاديين النظريين و الذين يركزون الاهتمام بصفة رئيسية على استخلاص القوانين العامة التي تحكم النشاط الاقتصادي في فترة معينة.
و السؤال الذي يثور في هذا المجال هو : كيف يمكن دراسة هذه التطورية لعلم الاقتصاد و قوانينه و نظمه ؟
تعريف علم الاقتصاد
اختلف الاقتصاديون بشأن تعريف علم الاقتصاد تعريفا اصطلاحيا يحدد نطاقه تحديدا جامعا للموضوعات التي يهتم بمعالجتها , مانعا لما لا يدخل في دائرة اهتماماته . ولقد ترتب على هذا الاختلاف أن تعددت التعريفات المعطاة في هذا الشأن, الأمر الذي يصعب معه تقديم بيان حصري لها . و إذا كان تعريف العلم يأتي لاحقا عليه ولا يسبقه . فإن الخلاف بين الاقتصاديين على التعريف ليس خلافا لفظيا أو على التغيير , بقدر ما هو خلاف على المفهوم المبدئي لموضوع علم الاقتصاد .
بعض التعاريف الاقتصادية : كثير من الكلمات التي يرد ذكرها في مجال الدراسات الاقتصادية تعتبر كلمات شائعة و لكنها قد تستعمل في المعنى اليومي بمفهوم يختلف عن معناها الاقتصادي و كبداية لدراستها في الاقتصاد سنقوم بتفسير مبسط لبعض و ليس كل الكلمات على أن نتبادلها بالشرح في مواضعها فيما بعد .
• الطلب Demande : الطلب الحاجة أو الرغبة المسندة إلى قوة شرائية .
• المنفعة Utility : هي قوة أي شيء في إشباع حاجة ما , بصرف النظر عن طبيعة الرغبة المشبعة و الأشياء النافعة تنقسم إلى قسمين :
السلعcommodités: وهي الأشياء النافعة التي تأخذ شكلا ماديا ملموسا
الخدمات Services: و هي الأشياء النافعة و التي لا تأخذ شكلا ماديا لخدمات النقل و الطلب و التعليم و تعتبر غير اقتصادية أو حرة إذا كان يمكن الحصول عليها بدون مقابل.
• الندرة Scarcity : المقصود بالندرة في المعنى الاقتصادي الندرة النسبية و ليس الندرة المطلقة و طالما إن الموارد محدودة فهي نادرة , و إن كان من المحتمل أن يكون لبعضها ندرة أكثر من الأخرى .
• الثروة Wealth : الثروة هي المخزون من الموارد الاقتصادية , و لكن قد يدخل الرجل العادي النقود و الأسهم القديمة في عداد الثروة و هذا غير صحيح في المعنى الاقتصادي , فالنقود ليست ثروة في حد ذاتها , و إنما هي وسيلة لامتلاك الثروة و كذلك شراء الأسهم القديمة لا يعتبر إضافة للثروة و إنما هو مجرد نقل ملكية ثروة قائمة.
الفكر الاقتصادي في العصور القديمة و الوسطى
قبل ميلاد علم الاقتصاد في منتصف القرن الثامن عشر تقريبا , لم يكن للفكر الاقتصادي وجود مستقل , وإنما نجده في أحضان أشكال أخرى للفكر : في أحضان الفلسفة في الإغريقي , في أحضان الفكر اللاهوتي في العصور الوسطى الأوروبية , وفي أحضان دراسة التاريخ وفلسفته عند المفكرين العرب في القرن الرابع عشر .
• 1- العصور القديمـة : أيا كانت الأفكار الاقتصادية في هذه العصور فالبداية نجدها عند الإغريق و الرومان .
• - أ- الفكر الاقتصادي اليوناني :
عند الإغريق ارتبط تاريخ الفكر الاقتصادي بالأفكار الفلسفية و الاجتماعية و مناقشة الأمور الجارية دون أن تكون له ذاتية مستقلة نفسر الواقع و نقدم نظرية متكاملة , و كان بكليته في خدمة السياسة بالمعنى الواسع للكلمة , و من بين العديد من مفكري تلك الفترة يعتبر أفلاطون و أرسطو من أبرز الفلاسفة الذين تعرضوا للمشاكل الاقتصادية
• أفلاطون ( 427-347 ) قبل الميلاد
يتمثل الإنجاز الرئيسي لأفلاطون في الوصف الذي قدمه لتقسيم العمل و أصل الدولة , حيث بحث تقسيم العمل بمناسبة الحديث عن الدولة المثالية , و هو يرجع أساس الدولة إلى عامل اقتصادي و ينادي بضرورة تقسيم العمل في دولته المثلى , فكل شخص يجب أن يتخصص في مهنة واحدة . و يبني أفلاطون فكرته في تقسيم العمل على حجتين : الأولى : اختلاف المواهب الطبيعية .
الثانية : أن التخصص يزيد الإنتاج ويحسن نوعه .
و في تصوره لتنظيم الدولة , يقسم أفلاطون المجتمع إلى ثلاثة طبقات , تتولى كل طبقة نوعا معينا من أنواع النشاط فالطبقة الأولى هي طبقة المنتجين و الطبقة الثانية هي طبقة الجنود و الطبقة الثالثة هي طبقة الحكام و يشترط أفلاطون أن يكون من بين الفلاسفة و ألا تكون لهم ملكية خاصة و روابط عائلية .
و النقود في رأيه , وسيلة لتسهيل التبادل أو وسيط للمبادلة و لقد قام أفلاطون باقتراح استخدام نوع من النقود له قيمة صورية و بهذا كان أول من نادى بأن تكون قيمة النقود في الإبراء و التعامل , مستقلة تماما عن قيمتها الذاتية .
• أرسطو ( 384 – 332 ) قبل الميلاد إذا كان البحث في المشكلات الاقتصادية عند أرسطو قد وجد في أحضان الأخلاق و الفلسفة و السياسة شأنه في ذلك شأن أفلاطون , إلا أنه أول من قدم ما يمكن تسميته ببذور نظرية اقتصادية . و هو يرى أن الدولة ظهرت نتيجة تطور تاريخي . و لتحقيق غايات أكبر من إشباع الحاجات المادية . و دافع بشدة عن العائلة و الملكية الخاصة و الحق الطبيعي في الاقتناء . و هي أمور تتفق و ميول الإنسان و تحفزه على العمل كذلك دافع أرسطو عن الرق على أساس الاختلاف في المزايا التي تمنحها الطبيعة للأفراد . و يرتكز التحليل الاقتصادي لأرسطو مباشرة على الحاجات و إشباعها و الأموال , أي المنتجات . هي التي تحقق هذا الإشباع . و طرق الحصول على الأموال هي الزراعة و تربية المواشي و الصيد بمختلف أنواعه و استخراج المعادن و عنده التجارة ليست من قبل النشاط الطبيعي و من ثم وجب إدانتها .
• - ب- الفكر الاقتصادي الروماني : على الرغم من أن الرومان لم يقدموا فكرا اقتصاديا يستحق الذكر إلا أنهم قد أثروا في الفكر الاقتصادي اللاحق من خلال تنظيماتهم القانونية , و من خلال التكوين العقلي الذي طبعت به دراسة القانون الروماني عقول الباحثين في الاقتصاد .
ومن الأفكار الخاصة التي أثر بها القانون الروماني في الفكر الاقتصادي فكرة « القانون الطبيعي » التي احتلت مكانة بارزة في الفكر الاقتصادي منذ القرن 18 وحتى أوائل القرن 20 كذلك يعتبر القانون الروماني بما تضمنه من أفكار ( حق كل شخص أن يعقد ما يشاء من العقود و الصفة المطلقة للملكية الفردية ) أحد مصادر المذهب الفردي الذي يقوم عليه النظام الرأسمالي .
2- العصور الوسطى : كان سقوط الإمبراطورية الرومانية في الغرب و الشرق . والإمبراطورية الفارسية و ظهور الدولة الإسلامية إيذانا بانهيار العالم القديم و بداية مرحلة العصور الوسطى التي شهدت تيارين من الفكر الاقتصادي : الفكر الاقتصادي الغربي و الفكر الاقتصادي العربي .
• - أ- الفكر الاقتصادي الأوروبي : تتلخص أهم معالم الفكر الاقتصادي نتاج هذه المرحلة في فكر المدرسين الذي ازدهر في جامعات أوروبا الوليد , و هي جامعات كانت تقوم أساسا على تدريس اللاهوت بقصد تكوين رجال الدين , و على الأخص فكر سان توماس الإكويني و يتمثل جوهر فكر المدرسين في محاولة التوفيق بين الدين و الفلسفة أي بين الإيمان و العقل , وهي محاولة تكمل في الواقع الصورة التي بدأها العصر القديم و استمرت في الفكر الإسلامي طوال القرون من التاسع وتقوم على استخدام المنهج الاستنباطي من منهج أرسطو معالجة أوضاع المجتمع الإقطاعي .
• - ب- الفكر الاقتصادي العربي : في أحضان التاريخ أو الفلسفة التاريخية نجد الفكر الاقتصادي العربي و لا شك أن مبادئ الدين الإسلامي هي أول و أهم مصادر هذا الفكر , فقد تضمنت هذه المبادئ تنظيم بعض الجوانب الاقتصادية الهامة يمكن أن نذكر دون تدخل الدولة لتحقيق ما قد يترتب على ذلك من مساوئ , تقديس العمل والحث عليه وقدم المفاصلة بين أنواعه المختلفة ’ ومن ثم لا يوجد فيه تحفظ من ناحية التجارة , تحريم الربا. مناهضة الاحتكار وتنظيم الأسواق على أساس المنافسة الكاملة .
المذاهب الاقتصادية الليبرالية
ابتداء من القرن الخامس عشر, و تحت تأثير التحولات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية السابقة , ينتقل مركز الأشغال الفكري للإنسان من القضايا الدينية إلى القضايا الزمنية ( الدنيوية ). و مع الحول الاجتماعي الجذري , و نضوج أشكال جديدة من العلاقات الاجتماعية و من الحكومات و من الأفكار , منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر , يبدأ علم الاقتصاد في الوجود بتحديد معالم موضوعه , الذي يشهد تناسقا داخليا و بلورة لمنهجه .
في إطار هذا الفكر يمكن أن نميز بين عدة اتجاهات نستعرضها بإنجاز فيما يلي :
• أ- مدرسة التجاريين:
في القرون الثلاثة الممتدة من القرن الخامس عشر حتى القرن الثامن عشر ظهر في أوروبا تيار جديد من الأفكار الاقتصادية أطلق عليه مؤ رخوا الفكر الاقتصادي اسم « مذهب التجاريين » و لم يتكون هذا التيار دفعة واحدة , و لم تتحدد معالمه بوضوح في وقت واحد بل خضع لتطور طويل . و المتتبع لكتابات مفكري التجاريين يلحظ بوضوح أن آراء كل مفكر قد تشكلت بظروف و مصالح بلده . و في إطار الانشغال بهذه القضايا تبرز بعض الأفكار الاقتصادية , تدور في الواقع حول طبيعة الثروة و كيفية زيادتها , و حول ظاهرة ارتفاع الأثمان التي كانت ظاهرة عامة في بلاد أوروبا في تلك الفترة . و على ذلك لا نجد لدى التجاريين تحليلا اقتصاديا واسعا, بل مجرد فلسفة تجارية لا تزيد في جوهرها على أن تكون مرحلة في تاريخ السياسة الاقتصادية, تشتمل على عدد من التدابير الاقتصادية التي يراد بها تحقيق التوحيد السياسي و القوة القومية. و برغم تشعب و تعدد أفكار التجاريين في هذا الصدد فإنه يمكن بصفة عامة إجمال الأصول و الاتجاهات الفكرية الجوهرية التي يصدر عنها الفكر التجاري , و خصائصه الأساسية على النحو التالي :
أولا : يجب أن تكون الدولة قوية , و يجب أن تكون غاية النظام الاقتصادي تحقيق هذه القوة . من هنا عرفت نظريتهم بنظرية « الاقتصاد للقوة » .
ثانيا : الثروة هي أهم ما يحقق قوة الدولة , و من ثم يجب أن تسعى الدولة إلى تنمية ثروتها . و الثروة كانت تتمثل لدى التجاريين , و بصفة خاصة الأوائل منهم , في الذهب و الفضة و بقية المعادن النفيسة , و لذلك يجب أن تتجه كل دولة إلى زيادة ما تحصل عليه من هذه المعادن التي تمثل الثروة . و لهذا كان البحث عن الذهب في العالم الجديد هو السمة التي ميزت التوسع التجاري في أول الأمر . و مع ذلك نبذ المتأخرون من التجاريين ذلك الخطأ الكبير الذي وقع فيه التجاريون الأوائل , و الذي يتمثل في المطابقة بين الثروة و المعادن النفيسة . فالثروة عند المتأخرين منهم تتمثل في مقدار ما يحققه البلد فعلا من منتجات .
ثالثـا : اعتقد التجاريون أن الثروة الكلية في العالم ثابتة الحجم , و من ثم ذهبوا إلى أن ما تكسبه دولة من الدول من هذه الثروة إنما يكون عن طريق ما تفقده دولة أخرى منها و من هنا كانت تعاليمهم ذات طابع وطني و اعتدائي , إذ لا سبيل لغنى الوطن إلا على الإضرار بالأوطان الأخرى .
رابعـا : بالتطبيق لما سبق , فإن يتعين على الدولة أن تحتفظ بالمعادن التي لا تتوفر لديها . و في سبيل تحقيق هذا الهدف , فإن التجاريين يشيرون بإتباع عدد من الوسائل أهمها العمل على استغلال المناجم المنتجة لهذه المعادن , و منع خروجها من الدولة , و تشجيع قدومها إليها . و لكي يتحقق ذلك يتحتم عليها زيادة صادراتها , و هو ما يعني الوصول إلى ميزان تجاري في صالح الدولة . و من هنا وجب عليها أن تتدخل لتنظيم الصناعة و التجارة . و يستهدف تنظيم الصناعة جعلها قادرة على الإنتاج بأرخص الأسعار , أما تنظيم التجارة فيستهدف الواردات و تشجع الصادرات , على ألا يؤدي هذا إلى إعاقة الواردات من المواد الأولية اللازمة للصناعة الوطنية .
و هكذا أخذت سياسة التجاريين صورا مختلفة في التطبيق تبعا للظروف و الأوضاع التي كانت تواجه الدول المعتقدة في جدوى هذه السياسة . فكانت السياسة المعدنية التي ذاعت في أسبانيا خلال القرن السادس عشر , والسياسة الصناعية التي ازدهرت في فرنسا في القرن السابع عشر , والسياسة التجارية المطبقة في إنجلترا في غضون القرن السابع عشر والنصف الأول من القرن الثامن عشر . هذا إلى جانب سياسة العهد الاستعماري والتي طبقتها كل الدول الاستعمارية الكبرى .
خامسا : حاول التجاريون الكشف عن أسباب ارتفاع الأثمان التي كانت تمثل ظاهرة سائدة في بلدان أوروبا في ذلك الوقت . و أعطيت في هذا الصدد تفسيرات مختلفة أهمها ما جاء به « جان بودان » الذي قدم عام 15 تفسيرا يرتكز على كمية النقود . فتغيرات مستوى الأثمان تتوقف على تغيرات كمية النقود .
أ- 1- تقدير مدرسة التجاريين :
ساهم التجاريون في تخليص الأفكار الاقتصادية نهائيا من طابعها الديني والأخلاقي الذي كان يميزها في العصور الوسطى . ومع ذلك استمروا في ربط هذه الأفكار بالسياسة وجعلوا الاقتصاد في خدمتها . وبالنظر إلى الظروف التاريخية التي نشأت فيها مدرسة التجاريين , وجب الاعتراف بأنها قد أدت الدور التاريخي الذي كان يجب عليها تأديته . فقد ساعدت على قيام الدول القومية القوية , و على تنمية الصناعات و التجارة , كما أسهمت , باهتماماتها بالنقود , في خلق البنوك الأوروبية و توسيع نشاطها المالي على أن الدور المؤثر الذي لعبه فكر التجاريين لا يحجب وقوعه في كثير من المآخذ التي تتصل أساسا بنوعية التحليل الاقتصادي و الخلفية التي كان يصدر عنها , هذا فضلا عما أدت إليه السياسات التي أخذت بآراء التجاريين في التطبيق من نتائج سيئة في بعض الأحوال .
فمن ناحية لم يحظ التحليل الاقتصادي للظواهر الاقتصادية و العلاقات الخاصة بها بعناية تذكر من التجاريين , وإن كانت كتاباتهم لا تخلو من بيان بعض العلاقات الأساسية . وكان من شأن ذلك احتجاب الأساس التحليلي وراء الوصايا التي كانوا ينادون بها . ليس هذا فحسب . بل إن التحليل الاقتصادي اللاحق قد أثبت أن العديد من آرائهم محل مراجعة و نظر .
من ناحية أخرى و بالرغم من أن المتأخرين من التجاريين يجدون الثروة في المنتجات فإن تدفق الذهب و الفضة يمثل ميزة استمروا في المطالبة بتحقيقها . و تمثل الانشغال الرئيسي للتجاريين في البحث عن تحقيق ميزان تجاري موات للبلد . و قد أثبت التحليل الاقتصادي عدم إمكان الحصول بصفة مستمرة على فائض إيجابي في الميزان التجاري . ذلك أن وجود هذا الفائض يعني تزايد كمية النقود داخل البلد ومن ثم ارتفاع الأثمان في الداخل عنها في الخارج , فتقل الصادرات و تزيد الواردات , ويتحول الميزان التجاري إلى حالة العجز .
كذلك فإنه مما يؤخذ على فكر التجاريين , أنه كان صادرا في أغلب الأحيان عن خلفية تمثل أصحاب مصلحة مكتسبة يستهدفون حمايتها و تدعيمها . ومن هنا نجد التضارب بين كتاباتهم وفقا لما تقتضيه المصلحة الطائفية . ففي هذا الفكر ,كان الصوت الغالب هو صوت أصحاب المصلحة التجارية الممثلة في الشركات الاحتكارية الكبرى , مثل شركة الهند الشرقية , مما زاد من فرض تحقيق المصالح الخاصة لهؤلاء , بالنظر لالتقاء مصلحتهم مع مصلحة الدولة الناشئة . ولا شك أن ذلك قد ساهم في جعل أفكارهم غير متنافسة , و بالتالي فلم تكن السياسات الاقتصادية التي نادوا بها واحدة , أو حتى منسجمة مع بعضها .
هذا بالإضافة إلى ما ترتب على تطبيق سياسات التجاريين من نتائج سيئة في كثير من دول أوروبا فمن ناحية , أدت هذه السياسات إلى زيادة حدة الصراع بين الدول . و من ناحية أخرى أدى تطبيق السياسة المعدنية في أسبانيا إلى ارتفاع الأسعار و حدوث موجة تضخمية أضرت بالطبقات الفقيرة التي كانت تكون الغالبية العظمى من الشعب الأسباني . أما في فرنسا , فقد حدت السياسة الصناعية بالدولة إلى الاحتفاظ بأثمان المواد الزراعية في مستوى منخفض مما أدى إلى انخفاض دخول المزارعين و سوء حالتهم .
وأخيرا أضر العهد الاستعماري إضرارا بالغا بدول المستعمرات من مختلف النواحي الاقتصادية و الاجتماعية والسياسية , وكان من أبرز النتائج السيئة لهذا العهد أن أصبحت الدول المستعمرة تتمتع باحتكار الشراء من المستعمرات والبيع لها , فكانت تشتري بأحسن الأثمان وتبيع بأغلاها .
و إذا كانت بعض أفكار التجاريين و السياسات الاقتصادية النابعة عنها لم تسلم من النقد من الناحيتين النظرية و التطبيقية على نحو ما قدمنا , فإن ذلك لا يعني أن تعاليمهم قد اندثرت كلية . فعلى الرغم من حجج كينز التي أوضحها في نظريته العامة , و التي هي على طرف نقيض من أراء التجاريين الذين كانوا يمجدون الادخار و ينددون بالاستهلاك و يدعون السلطة إلى اتخاذ الإجراءات و التدابير التي تكفل تخفيض أجور اليد العاملة , فإن التحليل الكينزي يلتقي مع ما انتهى إليه التجاريون من أن الفائض في الميزان التجاري يؤدي إلى انتعاش الاقتصاد القومي . كذلك وجد كينز في تحليل التجاريين للدور الذي يقوم به الإكثار من المعدن النفيس ما يتفق مع نظريته بالنسبة لآثار الزيادة و النقصان في كمية النقود على مستوى النشاط القومي .
كذلك فإنه لا يمكن تجاهل وجه الشبه بين ما كان ينادي به التجاريون و ما يراه عدد كبير من الكتاب المعاصرين في نظرية التطور الاقتصادي , حيث لا غنى عن قيام دور للدولة في هذا التطور . فضلا عن أن حرية التجارة لا تستقيم و مقتضيات التنمية في سائر الأحوال .
• ب- مدرسة الطبيعيين :
يتسبب مذهب الطبيعيين إلى لفيف من المفكرين بفرنسا في القرن الثامن عشر, اجتمعوا حول زعيمهم فرانسوا كيناي ( 1694- 1774 ) و نشروا طائفة من الأبحاث و المؤلفات في الفترة من ( 1756 – 1778 ) كان لها الفضل في وضع أسس علم الاقتصاد . و بالطبيعيين ندخل في عصر المدارس و المذاهب في الفكر الاقتصادي , فلئن كان لكل واحد من كتاب هذا المذهب أسلوبه الخاص في عرض أرائه إلا أنهم جميعا يتفقون فيما بينهم حتى في التفاصيل الصغيرة , مما يجعلهم يستحقون لفظ « مدرسة » واحدة لدرجة أكبر مما تستحقها التيارات الأخرى في الفكر الاقتصادي السابق .
وبصفة عامة يقوم المذهب الطبيعي على فكرتين رئيسيتين , الأولى تتعلق بالنظام الطبيعي , و الثانية تتعلق بالناتج الصافي . و يستتبع هاتين الفكرتين سياسة اقتصادية متميزة .
• ب- 1- فكرة النظام الطبيعي :
اعتقد الطبيعيون أن الظواهر الاقتصادية تخضع لقوانين طبيعية لا دخل لإرادة الإنسان في إيجادها . وفي انطباقها وتنظيمها للحياة الاقتصادية تقوم هذه القوانين على مبدأين : الأول هو مبدأ المنفعة الشخصية , والثاني هو مبدأ المنافسة . فكل شخص في سعيه لتحقيق منافعه الشخصية ينافس بقية الأفراد في المجتمع فينشأ عن ذلك ما يحد من انطلاقه في تحقيق منافعه , ويتحقق بالتالي صالح الجميع .
وتتميز القوانين الطبيعية بأنها مطلقة لا استثناء فيها , وكل محاولة من الفرد للخروج عليها تعود عليه بالضرر مما يضطره للرجوع إليها . وهي قوانين عالمية تنطبق في كافة البلاد بصرف النظر عن ظروف كل بلد . فضلا عن كونها قوانين أماوالية لا تتغير ولا تتبدل , ويضاف إلى ذلك أنها قوانين إلهية فرضها الله وحتمها , ومن ثم لا يمكن أن ينتج عن انطباقها ضرر للناس .
مدرسـة الطبيعيـين
يرجع إلى الطبيعيين ، وخاصة كيناي، الفضل في تخليص علم الاقتصاد من صفة التبعية للدين والفلسفة التي كانت تميزه في العصور القديمة والوسطى ، ومن صفة التبعية للسياسة العملية التي ميزت أفكار التجاريين.
كذلك كان للطبيعيين الفضل في تصحيح مفهوم الثروة . فلم يعد النظر للنقود على أنها الثروة كما كانت الحال عند التجاريين، بل أعطت أهمية للإنتاج.
فضلا عن آراء الطبيعيين أدت إلى تخفيف القيود التي كانت مفروضة على النشاط الاقتصادي في ظل التجاريين. ولعل أهم ما ينسب إلى الطبيعيين أنهم هم الذين أسسوا المذهب الفردي أو المذهب الحر الذي ساد حتى منتصف القرن العشرين، وأنهم أول من أعطى فكرة عن دورة الناتج الكلي وتداوله داخل البلد في مجموعه، وعن كيفية توزيعه بين الطبقات. وبالرغم من الجوانب الايجابية المتقدمة في فكر الطبيعيين والتي ساهمت في بلورة الاقتصاد السياسي كعلم له ذاتيته المتميزة عن غيره من العلوم، وفي تزويد التحليل الاقتصادي بالكثير من الأفكار التي ساعدت على تطوره، فقد انتقد مذهب الطبيعيين من عدة وجوه أهمها:
أولا: كانت فكرتهم عن الإنتاج قاصرة ومحدودة وذات طابع مادي، ذلك أن الزراعة وحدها هي النشاط المنتج. هذه الفكرة لا يمكن التسليم بها فالإنتاج هو كل خلق لمنفعة جديدة أو زيادة لمنفعة موجودة من قبل. ومن ثم تصبح الصناعة و التجارة أنشطة منتجة لأنها تخلق المنافع وتزيدها. ويترتب على ذلك عدم صحة نظريتهم في الضريبة الواحدة التي تفرض على دخول المزارعين، باعتبارها ممثلة للناتج الصافي للجماعة.
ثانيا: اعتقاد الطبيعيين في وجود قوانين الطبيعة تحكم الظواهر الاقتصادية أمر يخالف الواقع ويتنافى معه. فالظواهر الاقتصادية تتغير وتتطور، وتتغير تبعا لتلك القوانين التي تحكمها. ومعنى ذلك أن الطبيعيين لم تكن لديهم أية فكرة عن تطور الحياة الاجتماعية.
ثالثا: الاقتصار عل نظام الضريبة الوحيدة التي تفرض على النشاط الزراعي فقط لا يحقق العدالة في توزيع الأعباء الضريبية على جميع فروع النشاط الاقتصادي. هذا بالإضافة إلى أن الدولة لا يمكنها الاقتصار على ضريبة واحدة لتمويل نفقاتها المتزايدة.
مدرسة التقليديين(الكلاسيك):
من الصعب تعيين الحدود الزمنية للمذهب الكلاسيك. إلا أنه في الامكان بدئه مع كتاب آدم سميث" بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم" الذي نشر عام 1776، شريطة ألا نغفل العمل التمهيدي الذي قام به الرواد الأوائل وأهمهم: وليم بيتي(1623 – 1687) في انجلترا، والطبيعيون في فرنسا. وقد كان بناء مذهب الكلاسيكي، إلى حد كبير، من عمل رجلين اثنين: آدم سميث(1723 – 1790)، ودافيد ريكاردو(1772 – 1823). وقد أسهم في إرساء بعض مبادئ المدرسة الكلاسيكية توماس مالتس( 1766 – 1843 ).
وروج لتعاليم المدرسة في انجلترا جون ستيوارت ميل ( 1806 – 1873 )، وفي فرنسا جان باتست ساي ( 1767 – 1832 ).
وعلى الرغم من تعدد كتاب المدرسة الكلاسيكية، والاختلافات الجزئية التي يجب ألا تهملها أي دراسة تفصيلية للفكر الكلاسيكي ولآراء كل كاتب على حده يمكن تلخيص الخطوط العامة للفكر فيما يلي:
أولا: في دراستهم للظواهر الاقتصادية يتأثر التقليديون بالفكرتين اللتين ميزتا كل الفكر الاجتماعي للقرن الثامن عشر: فكرة النظام الطبيعي و النظرة المادية للكون. فالظواهر الاقتصادية تخضع لقوانين موضوعية، حقيقية، مادية، هي من طبيعة هذه الظواهر. ولما كانت هذه القوانين خالدة لا تتغير، في نظر التقليديين، فإن الظواهر الاقتصادية تكون نظاما اقتصاديا أبديا عندهم.
ثانيا: يقوم التقليديون بدراسة هذه الظواهر في الإطار التحليلي:
- لمجتمع مكون من ثلاث طبقات محددة وفقا لوظائفها الاقتصادية:
الطبقة الرأسمالية التي تمتلك وسائل الإنتاج. الطبقة الأرستقراطية المتملكة للأرض. والطبقة العاملة التي تعطي العمل. هذه الطبقات الاجتماعية مرتبطة إحداها بالأخرى في عملية الإنتاج.
- لمجتمع يرتكز فيه النشاط الاقتصادي على المبادلة التي تقوم بين أفراد المجتمع من نوع "الرجل الاقتصادي". هؤلاء الأفراد يحققون، وهم يسعون وراء مصالحهم الشخصية التي تمثل محرك النشاط الاقتصادي، مصلحة المجتمع من خلال ما يسميه آدم سميث "اليد الخفية"، التي هي في الواقع القوى التلقائية للسوق.
- لمجتمع تسود فيه المنافسة، ليس فقط داخل البلد الواحد وإنما كذلك على مستوى الاقتصاد الدولي. في هذا المجتمع لا تقوم الدولة إلا بدور الدولة الحارسة التي تقتصر وظيفتها على الحفاظ على النظام العام (من خلال حماية الملكية الفردية ضد كل عدوان داخلي أو خارجي)، دون التدخل في الحياة الاقتصادي للمجتمع إلا في المجالات التي يحجم عنها رأس المال الفردي.
ثالثا: في تحليلهم لهذه الظواهر يهدف التقليديون إلى الكشف عن القوانين الموضوعية التي تحكمها. وعليه يكون هدفهم علمي، موضوعي. وفي هذا التحليل يرتكز التقليديون على المظهر الكمي للظواهر مستخدمين بصفة عامة طريقة التجريد ذات الطبيعة الأرستقراطية – الاستنتاجية.
وبفضل هذا المنهج واستخدام هذه الطريقة في التحليل يتوصل التقليديون، في دراستهم للظواهر الاقتصادية، إلى بناء مجموعة من النظريات تمثل الجسم النظري لعلم الاقتصاد.
نظرية القيمة:
تعتبر نظرية القيمة الركيزة التي يقوم عليها كل البناء النظري للمدرسة التقليدية. وجوهر هذه النظرية أن المنفعة شرط القيمة، إذ لكي تكون للسلعة قيمة لابد أن تكون نافعا اجتماعيا، أي صالحة لإشباع حاجة ما. ولكن القيمة تستمد مصدرها من العمل وتقاس بكمية العمل المبذول فيها. وذلك على تفصيل كبير فيما يتعلق بفكر كل من آدم سميث ودافيد ريكاردو الخاص بالقيمة كأساس لتحديد الأثمان. وقد عرفت هذه النظرية بنظرية "العمل في القيمة"، أو "قيمة العمل".
نظرية الإنتـاج:
عرفت نظرية الإنتاج، والتي ارتكزت على نظرية العمل في القيمة، تطورا هاما على يد المذهب التقليدي، فالإنتاج يتمثل في خلق المنافع أو زيادتها، ويختلف بذلك عما كان سائدا لدى التجاريين والطبيعيين. وعناصر الإنتاج هي العمل ورأس المال والطبيعة، ولكن العمل هو العنصر الرئيسي. وقد اهتم التقليديون بناحيتين من النواحي الفنية للإنتاج، وهما ظاهرة تقسيم العمل، وقانون الغلة المتناقصة.
وفيما يتعلق بظاهرة تقسيم العمل، ذهب آدم سميث إلى أن تقسيم عملية إنتاج سلعة من السلع إلى عدة عمليات جزئية، يقوم بكل واحدة منها شخص أو أشخاص يتخصصون فيها، يؤدي إلى زيادة الإنتاج وتحسين نوعه. ذلك أن التخصص على هذا النحو (تقسيم العمل الفني) أدعى إلى إتقان العامل للعملية التي يقوم بها، وإلى استخدام الآلات بطريقة أكفأ. كما ذهب إلى أن بلوغ درجة عالية من التخصص، وتقسيم العمل، يتوقف على مدى اتساع السوق.
أما قانون الغلة المتناقصة، فقد أعطى له الكتاب الكلاسيكي أهمية خاصة في تحليلهم، فعلى أساسه تقوم نظرية ريكاردو في الريع، ونظرية مالتس في السكان. ومقتضى هذا القانون أنه إذا زاد أحد عناصر الإنتاج بكميات متساوية صغيرة مع بقاء عناصر الإنتاج الأخرى ثابتة فإن الناتج الكلي سوف يتزايد بنسبة متزايدة في البداية( مرحلة تزايد الغلة)، ولكن بعد حين فإن الزيادة في الناتج الكلي تكون بمعدل متناقص حتى يصل إلى حده أقصى، بعدها يبدأ الناتج الكلي في التناقص حتى مع استمرار زيادة العنصر المتغير(مرحلة تناقص الغلة).
وقد اعتقد الكلاسيك في انطباق هذا القانون على الزراعة وحدها، في حين أثبت البحث أنه قانون عام ينطبق على كافة فروع الإنتاج متى توافرت شروطه.
نظرية التوزيـع:
على أساس القيمة تقوم نظريتهم في توزيع الناتج الكلي بين عناصر الإنتاج المختلفة. وهي نظرية تحتوي نظرية تحتوي نظرية في الربح و الفائدة يرتبط بها نظرية في رأس المال ونظرية في الأجور ونظرية في الريع.
أما الريع فهو ما يحصل عليه ملاك الأراضي الزراعية نظير سماحهم لغيرهم باستخدامها. فهو ثمن يدفع للملاك نظير ملكية الأراضي، وندرة عنصر الأرض وتفاوت خصوبتها. أما عن كيفية تحديد الريع فقد بين ريكاردو أن ذلك يتوقف على درجة التفاوت في خصوبة الأراضي وعلى مدى بعدها عن أماكن الاستهلاك وهي التي تحدد الطلب على هذه المنتجات.
فالرغبة في زيادة الإنتاج الزراعي تدفع الأفراد دائما إلى التوسع في الرقعة الزراعية. وهذا يعني زراعة الأراضي الأقل إنتاجية و الأقل خصوبة، أو ما نطلق عليه الأرض الحدية، ولسوف يتحدد الثمن أو الدخل على أساس إنتاجية تلك الأراضي الحدية. وينتج عن ذلك أن الأراضي الأخرى الأكثر خصوبة تحقق مميزات أو عائد (الريع). وهذه الميزة لا تعود لمجهود صاحب الأرض وإنما هي نتيجة لأسباب خارجية أو عارضة.
وبالنسبة للأجر فقد اعتقد الكتاب الكلاسيك، على أثر كتابات ريكاردو، أن العمل سلعة كبقية السلع، وأن ثمن العمل هو الأجر، يتحدد على أساس كمية المواد الغذائية الضرورية لحفظ حياة العامل. فزيادة الأجور ذاتها لن تكون في صالح العمال. حيث أن ذلك يزيد من المنافسة بين العمال، ويزيد من عرض العمل. وزيادة عرض العمل مع ثبات أو انخفاض الطلب سوف تؤدي بالضرورة إلى انخفاض الأجور. كما أن انخفاض الأجر عن الحد السابق يترتب عليه نقص عرض العمل، وارتفاع الأجور إلى المستوى اللازم للحفاظ على مستوى معيشتهم الضرورية. ولذا فمن المناسب الحفاظ على مستوى متواضع من الأجور لا يجب تجاوزه.
ولا شك أن ريكاردو قد نبه الأذهان عن طريق نظريته في الريع والأجور إلى ضرورة الإصلاحات الاجتماعية، فإذا كانت أجور العمال تتجه نحو الأدنى بينما ريع ملاك الأراضي الزراعية يميل إلى الارتفاع نتيجة لزراعة الأراضي الأقل خصوبة، فإنما يدل ذلك على أن المستفيدين من التقدم الاقتصادي هم أقل الناس مساهمة فيه.
وفيما يتعلق بالربح والفائدة لم يميز الكلاسيك الأوائل بين المنظم الذي يشرف على المشروع ويتحمل مخاطره، والرأسمالي الذي يقرض نقوده. ثم جاء جان باتست ساي وميز بينهما بوضوح، فالربح هو دخل المنظم، والفائدة دخل صاحب رأس المال.
وقد تأثر الكلاسيك في تحليلهم للفائدة بنظرية القيمة. فالفائدة هي ثمن الادخار، ومن ثم فهي، كأي ثمن آخر، تتحدد بتلاقي عرض الادخار والطلب عليه. وتؤثر تغيرات سعر الفائدة بدورها في عرض وطلب الادخار، كما تؤثر تغيرات ثمن أي سلعة في عرضها وطلبها.
وبالنسبة للأرباح، أظهر ريكاردو أن المنافسة تميل إلى فرض معدل متجانس للأرباح، وذلك عن طريق اجتذاب رأس المال إلى مجالات تغل معدلا يزيد عن المتوسط، وإبعاده عن المجالات التي تقل فيها الأرباح عن المتوسط. واعتقد الكلاسيك أن معدلات الأرباح تميل إلى الهبوط مع التقدم الاقتصادي. فازدياد تجميع رأس المال وتراكمه، يصحبه ازدياد المنافسة بين الرأسماليين، وهذا يعمل على خفض الأرباح.
نظريـة التشغيـل:
اعتقد الكلاسيك أن حجم التشغيل (العمالة) لابد أن يتحدد عند مستوى التشغيل الشامل. بمعنى أن كل العمال الراغبين في العمل لابد أن يعملوا، وأن كل بطالة بين العمال لا يمكن أن تكون إلا ظاهرة عارضة. إذ يترتب على البطالة انخفاض الأجور وزيادة التشغيل من جانب المنظمين حتى يستوعب كل المتعطلين عن العمل.
وتستند هذه النظرية في التشغيل إلى قانون الأسواق، أو "قانون ساي"، والذي بمقتضاه يخلق العرض طلبا مساويا له في قيمته. فالطلب الكلي على المنتجات إنما يتساوى دائما مع عرضها الكلي. هذا التساوي يتحقق تلقائيا عند مستوى الإنتاج الذي يكفل العمالة الكاملة في الاقتصاد القومي. وبالتالي يكون من المستحيل وقوع كساد وبطالة لفترة ممتدة من الزمن.
نظريـة النقـود:
وابتداء من القيمة توجد نظريتهم النقدية التي تبحث في طبيعة النقود ووظائفها وقيمتها وأثرها في التداول. والنقود عندهم مجرد وسيط في المبادلة وأداة لقياس القيم، ولم يعطوا أهمية لوظيفتها كمخزن للقيم أو أداة لحفظ المدخرات. من هنا أقام الكلاسيك تحليلهم كما لو كنا في اقتصاد عيني لا نقود فيه، ثم اعتبروا النتائج التي توصلوا إليها في هذا الاقتصاد العيني معبرة عما يحدث في اقتصاد نقدي. فالنقود عندهم محايدة، أو هي مجرد حجاب يغطي الواقع لكنه لا يلغيه أو يغير منه.
وفي تفسيرهم لتقلبات المستوى العام للأثمان (قيمة النقود)، اعتمد الكلاسيك على النظرية الكمية في النقود. ومقتضاها أن كل زيادة في كمية النقود تؤدي حتما إلى ارتفاع مستوى الأثمان، وكل نقص في هذه الكمية لابد أن يؤدي إلى انخفاض هذا المستوى.
نظرية التجارة الخارجية:
وابتداء من القيمة يبنون نظريتهم في التجارة الخارجية (التي تقوم على التقسيم الدولي للعمل)، في أسباب قيامها، في مزاياها، وفي كيفية توزيع مزاياها بين الدول المتبادلة.
وقد هاجم الكلاسيك ما كان ينادي به التجاريون من تدخل الدولة في تنظيم شؤون التجارة الخارجية. ذلك أن أتباع سياسة تجارية حرة على المستوى الدولي يؤدي بكل بلد إلى أن يتخصص في إنتاج السلع التي يتمتع فيها بأكبر ميزة نسبية في مواجهة البلاد الأخرى. بل إن المبادلات التجارية نفسها عندما تتم بين الدول تؤدي إلى زيادة كبيرة في الإنتاج، فضلا عن جعل الجهد البشري في كل دولة أكثر عائدا من الناحية الإنتاجية. هذا التخصص الدولي القائم على أساس اختلاف النفقات النسبية يزيد من رفاهية الشعوب.
مدرسـة الكينـزية
تناولت النظرية الكينزية الأفكار الاقتصادية السابقة المتعلقة بنظرية التشغيل والعمالة والنظرية النقدية ودور الدولة الواجب الإتباع وبالتالي السياسة الاقتصادية .
نظرية التشغيل والتوازن الاقتصادي: كان المذهب التقليدي يستند في نظريته للتشغيل والتوازن الاقتصادي على قانون الأسواق لساي، الذي بمقتضاه أن كل عرض يخلق الطلب المساوي له، وبالتالي تتحقق المساواة بين العرض الكلي ويحقق بالتالي التشغيل الكامل للموارد وللعمالة، وتستند المساواة بين العرض والطلب إلى أن كل دخل ناجم عن الإنتاج سوف ينفق، أي يتحول إلى طلب على السلع الاستهلاكية وعلى السلع الاستثمارية، أي أن كل ادخار سوف يتحول إلى استثمار، نظرا لأن النقود كان ينظر إليها على أنها وسيلة للتبادل.
ولو فرض وأن حدثت بطالة في اليد العاملة، فإن تغيرات الأثمان كفيلة بالقضاء عليها. نظرا لأن انتشار البطالة يترتب عليه ازدياد عرض العمال مما يؤدي إلى انخفاض أجورهم، مما يرفع معدل الربح ويؤدي تنافس أرباب الأعمال في تشغيل العمال، ويظل الأجر ينخفض والإنتاج يرتفع تلقائيا، والطلب الكلي على المنتجات يتبعه حتى يتحقق التشغيل الشامل للعمال ويقضي على البطالة.
ونفس الشئ يحدث في حالة حدوث كساد لفرع من فروع الإنتاج لانخفاض معدل الربح فيه، عندئذ تميل عناصر الإنتاج إلى ترك هذا الفرع إلى غيره من فروع الإنتاج الأخرى التي يرتفع فيها معدل الربح، ويترتب على هذا الانتقال من ناحية، قلة العرض في الفرع الذي انتقلت منه عناصر الإنتاج. وبالتالي ارتفاع أثمان منتجاته وارتفاع معدل أرباحه، ومن ناحية أخرى يرتفع عرض أثمان منتجاتها وينخفض معدل ربحها، ويستمر هذا الانتقال لعناصر الإنتاج بين فروعه المختلفة حتى يتساوى معدل الربح فيها جميعا، ويتحقق التوازن في الاقتصاد، ويتم علاج الكساد الجزئي الذي كانت تعرفه بعض الأنشطة الاقتصادية.
خلاصة القول أن النظرية التقليدية ترى أن هناك اتجاه تلقائي نحو تحقيق التشغيل الشامل بفضل تغيرات الأثمان. وانتقال عناصر الإنتاج، والشرط اللازم لتحقيق ذلك هو سيادة المنافسة الحرة. وأنه لايمكن أن يحدث اختلال في التوازن الكلي للاقتصاد نظرا لأن العرض يخلق الطلب المساوي له، نظرا لأن النقود ليست إلا وسيلة للتبادل.
وقد بين كينز في كتابة النظرية العامة عدم صحة التحليل السابق ونقطة البداية عنده عدم صحة قانون المنافذ لساي والذي بمقتضاه أن العرض يخلق الطلب المساوي له والصحيح لدى كينز أن الطالب هو الذي يخلق العرض، وأن الطلب الفعلي هو الذي يحدد حجم الإنتاج وحجم العمالة أي مستوى التشغيل.
والطلب الفعلي هو الحصيلة أو الإيراد الذي يعطي أكبر ربح ممكن والتي يتوقع المنتجون الحصول عليها من بيع حجم معين من الإنتاج وهو الذي يعتبر المتغير المنتقل أما حجم الإنتاج وحجم الدخل فهي متغيرات تابعة.
تقدير النظرية الكينزية:
لا شك أن النظرية الكينزية قد أحدثت ثورة في الفكر الاقتصادي، ترتب عليها تطور في النظم الرأسمالية المعاصرة، وقد أسهم كثير من الاقتصاديين اللاحقين على كينز في شرح نظريته الأمر الذي أدى إلى انتشارها.
وتتميز أيضا هذه النظرية في أنها بنيت على أسس واقعية، وليست تجريدية كما هو الحال بالنسبة للنظرية التقليدية، مما أدى إلى انتشار العمل بها ولكن وجهت إلى هذه النظرية عدة انتقادات لا يتسع المجال هنا لذكرها، وبالرغم من ذلك فهي تعتبر إلى حد كبير الأساس .
إذا كان علم الاقتصاد قد تحقق له وجود معترف به من خلال عملية بطيئة تغطي الفترة التي تمتد من منتصف القرن 17 حتى النصف الأول في القرن 19 فإن الفترة السابقة عليها شهدت تحولات في الفكر الاقتصادي مهد لميلاد هذا العلم .
و لذلك فمن خلال هذا البحث درسنا تاريخ الفكر أو الإبداع التصوري و درسنا الآراء و الأفكار و الأيدلوجيات و النظريات التي تفسر أو تبرر أو تتنبأ و تضع و تقترح سياسات لطبيعة النشاط الاقتصادي و القوانين المنظمة لهذا النشاط .