تعتبر تربية الأطفال من أكثر المهام الأسرية والاجتماعية تعقيدا، حيث الطفل ينشأ صفحة بيضاء عقلا ونفسا، خالية من أي شائبة وبعيدة عن أي عادة، فيكبر ويترعرع بين أحضان أبويه،
وتصبح هذه الصفحة، مع مرور الأيام والشهور والأعوام، قابلة لتنقش عليها أحداث متوالية، تقع في محيط الطفل، انطلاقا من وسطه الأسري، إلى محيطه الاجتماعي الأقرب منه فالقريب، ثم البعيد منه فالأبعد، لترسخ لديه بالتدريج، وعبر ذاكرته.
وهكذا، فمنذ أن تصبح حواس الطفل قادرة على التقاط أصوات وصور وإشارات وحركات وأذواق، يشرع مختلف أفراد أسرته في تكرار أقوال وأفعال كل حسب طريقته وفهمه ودرجة استيعابه للأمور والأحداث، تنقش على ذاكرة الطفل، فكرا وعقلا ونفسا، فيصير يرددها كما تلقاها وبشكل آلي معتمدا مختلف جوارحه، دون تمييز أو تفريق بين مختلف الأحداث والوقائع: فلأبويه خطاب وممارسات، ولأفراد أسرته خطاب وممارسات قد تتطابق، وعلى الأرجح، قد تختلف في كثير من صورها قولا وفعلا.
فما أنواع الخطاب الأبوي الموجه إلى الأطفال صغارا وهم يكبرون ويترعرعون؟ وأي ممارسات يلمسها الطفل في حاشيته ووسطه الأسري والاجتماعي؟ وإلى أي حد يتطابق الخطاب والممارسة؟ وبشكل عام وعلى مختلف جوانب الحياة، تربية أسرية وتربية مدرسية وتربية اجتماعية، ما أثر تناقض الممارسة للخطاب على الطفل والمواطن سلوكا ومعاملات وأخلاقا؟
حيث إشكالية تربية الأولاد تلازم جميع المجتمعات وعبر العصور والأزمان، فيطبع الطفل بطابع تربية والديه ووسطه الأسري والمدرسي والاجتماعي ، وحيث التربية، بالضرورة، توجيه وتطبيق متلازمان، إلا أنه يتم تسجيل لدى المربين، وعلى أرض الواقع المعيش، سواء عن قصد ولظروف ضاغطة، أو عن غير قصد جهلا أو سهوا، وفي كثير من الأحيان، تناقضات صارخة بين الخطاب التربوي الموجه إلى الأطفال، وممارساتهم الفعلية في إطار التعامل اليومي. وعليه سنحاول مناولة هذه الإشكالية وآثارها على الأطفال صغارا وكبارا، وعلى المواطن عموما، سلوكا وأخلاقا، وذلك من خلال الفقرات المحددة أسفله.
الخطاب التربوي توجيها وتعبيرا:
ممارسات المربين قصدا وعرضيا:
آثار تناقض الخطاب والممارسة على الطفل:
إن الطفل ومنذ لحظة مسقط رأسه، وهو يحتك بوالديه شعورا وإحساسا، عن طريق اللمس والذوق والشم والسمع والبصر، فيألف ويتعود أصواتا وكلمات ورائحة، ثم صورا وحركات وأحداثا، يصبح مع مرور الوقت والزمن يعرفها حق المعرفة نوعا ووقعا وكما، من خلال مميزاتها وأوصافها، فيصير يقلد وبشكل آلي كل ما يسمعه وما يراه بالصوت والحركة، وما يقوم به أي شخص بجانبه. هذا الواقع الذي يحتم على الآباء والمربين التعامل معه وبحذر وروية، حيث كل كلمة وكل فعل ينقشان على تلك الصفحة البيضاء، التي تتكدس مع مرور الزمن وتختزن كل المعلومات في وعاء ذاكرة تنمو وتتسع يوما بعد آخر.
وعليه فالخطاب التربوي الأبوي والخطاب التربوي برياض الأطفال أو بالكتاتيب القرآنية، والخطاب التربوي المدرسي، هذا الخطاب التربوي أيا كان نوعه أو مصدره، لا يحتمل المزاح والتهور، بل يجب أن يتسم بالواقعية والجدية والصدق، ليترجم الصور الحقيقية لمختلف القيم الفاضلة والأخلاق الحسنة والمعاملات السامية، إذ الطفل يستوعب، وبسرعة هائلة، كل ما يسمعه وما يراه، خصوصا بين ستة واثنتي عشرة سنة، حيث يلمس عن وعي كل سلوك صدر عن والديه أو مربيه أو لمسه بمحيطه.
فالوالدان يجب أن يتسلحا بالمعرفة التربوية، قبل أن ينشأ الطفل، ويحصل التفاهم بينهما لانتهاج نفس السياسة التربوية، باستعمال نفس المفردات المؤدية لنفس المعنى، وإشباع الطفل بمصطلحات جميع القيم السامية دينيا وثقافيا واجتماعيا.
كما أنه على المربين، بجميع المستويات التربوية والتعليمية، اعتماد خطاب سليم وواقعي وجدي، يترجم واقع الأطفال وبنفس المصطلحات والتعابير، ليسهل على الأطفال استيعابها دون ملامسة أي تناقض قد يؤثر على سلوكاتهم ومعاملاتهم.
وعلى الصعيد الاجتماعي، يلمس الأطفال الصغار من والديهما اللذين يكونان قد عانيا ولو مرة واحدة استهتار إدارة معينة، أو تلاعب موظف أضاع قضاياهما أو أتلفها، لسبب ما، أو عانيا تماطلا لإنجاز عمل ما لفائدتهما، أو علاج وتطبيب...وغير ذلك.
ولظروف معينة وأسباب وعوامل تختلف باختلاف المستويات الثقافية والمعيشية لمختلف الأسر، فإن بعض الآباء والأمهات يلتجئون إلى ممارسات، يعتقدونها سياسة تربوية ناجعة، لتبرير مواقف معينة وتجنب أبنائهم عادات وسلوكات، في اعتقادهم مشينة، فيمارسون الكذب على أبنائهم والمراوغات والتلاعب بعواطفهم، بانتهاج طرائق فاضحة لأقوال ووعود ضربت بجد حول اتفاقات سابقة، لتوفير لعب وحاجات أو اقتناء ألبسة، فيذهبون إلى الدكان أو السوق بنية الإيجاب، ويعودون بالسلب مختلقين أسبابا وأعذارا، سرعان ما يتبين للأطفال أنها واهية، وبعيدة عن الواقع، فيصابون بخيبة وفقدان ثقة، ويشعرون بتلاعب في المعاملات، غالبا ما يصرحون بها ويعلقون عليها بكيفية ساذجة، خصوصا لما تتكرر الأفعال ليزداد الأطفال تأكدا من ممارسات مشينة، وتناقضات تمس عواطفهم وتؤثر في سلوكاتهم.
وعل الصعيد التعليمي والمدرسي، غالبا ما يسجل التلاميذ اختلالات واضحة في الممارسة التربوي، حيث يلمسون باستياء مربين وأساتذة يخلفون وعود إنجاز عمل مدرسي معين دون إشارة ولا مبرر، كإلغاء خرجات دراسية، أو القفز على تمرين متفق حوله سابقا، أو عدم تنظيم فرض محروس حدد موعده، أم عدم منحهم النقط المستحقة، أو زفهم أخبارا غير موثوق بها، أو تزويدهم بمعلومات خاطئة، أو تسجيل التلاميذ تغيبات متكررة في صفوف المدرسين دون إخطارهم وإقناعهم بأسباب التغيب، أو ملامسة فوارق شاسعة في التعامل والمعاملات المبنية على التفاضل وعدم استتباب مبادئ تكافؤ الفرص والعدالة والمساواة.
وعلى الصعيد الاجتماعي، تتكون لدى الأطفال الصغار من خلال والديهم مواقف سلبية من مختلف الإدارات والمؤسسات الاجتماعية والخدماتية، كما يلامس الشباب معاملات يرفضونها بهذه المؤسسات، إذ يبدو لهم أن قضايا تتلف وحقوقا تهضم، تتجلى في العديد من الممارسات: التماطل والتلكؤ، غياب المساواة، فقدان حقوق مستحقة....
فعلى الصعيد الأسري والأبوي، كيف يستقيم سلوك طفل ووالده يطلب منه ما لا يفعله هو نفسه؟ وكيف يقلع طفل عن التدخين وأبوه يدخن يوميا بالمنزل وأمام أطفاله يزعجهم ويقلق راحتهم ويجعلهم يدخنون معه كرها؟ وكيف يصدق طفل في حديثه وفعله وأبوه يكذب ويراوغ ويتلاعب في أقواله وأفعاله؟ وكيف يواظب طفل على صلاته ووالده تارك للصلاة؟ وكيف يجتهد طفل في دراسته ويستوعب دروسه وينتج ويحقق نتائج مقبولة وأبوه متقاعس وخامل ولا يعمل ولا يبحث على عمل ولا يبدو نشيطا؟ وكيف يتمكن طفل من معاملات جيدة مع الناس ووالده سيء المعاملات أو لم يصطحبه معه للتدرب واكتشاف مختلف الأوساط والتعرف على خباياها وخصوصياتها؟
وعلى الصعيد المدرسي والتعليمي، كيف يستقيم سلوك تلاميذ قسم، وينضبطون وتسمو قيمهم ومعاملاتهم، وهم يعيشون اختلالات جلية تطال العملية التربوية جراء ممارسات غير مبررة على صعيد العمليات التربوية والتعليمية؟ فماذا ينتظر مدرس غير ملتزم بمواعيد الدروس من تلامذته غير التأخر والتخلف عن مختلف الحصص؟ وماذا ينتظر مدرس يفد يوميا على المدرسة بلا هندام محترم ولا محفظة غير التهور والاستهتار وعدم الانضباط؟ وماذا ينتظر أستاذ من تلاميذ قسم يعانون الميز والتفاضل غير الشغب وفقدان الثقة في العملية التربوية؟ وماذا ينتظر تلاميذ مؤسسة تعليمية ومسئول تربوي أو إداري يهمل واجباته ويحرمهم من حقوقهم التي تضمنها لهم النصوص التنظيمية غير الاحتجاج وسوء السلوك والمعاملات؟
وعلى الصعيد الاجتماعي، أي تربية اجتماعية تنتظر من مؤسسات تطالها أعطاب أخلاقية وتؤثر في الأطفال كبارا وصغارا، قد تأثر سلبا في نفسيتهم وتؤدي إلى فقدانهم الثقة في تدبير شؤون المواطن والتلاعب بقضاياه وإتلاف حاجاته؟ وأي تربية اجتماعية تنتظر من شارع يعش بموبقات ظاهرة لعيان أطفال في حاجة لتربية قويمة وشباب يفيض حيوية ونشاطا يلمس متناقضات واضحة بين التربية المدرسية والتربية الاجتماعية إلى درجة فقدانه الثقة في مقوماته القيمية والأخلاقية؟
خاتمة:
إن التربية القويمة والهادفة ترتكز على أسس متينة تتمثل في الجدية والواقعية واستتباب القيم السامية والأخلاق الحسنة، من خلال الفعل المطابق للقول، والصدق في الحديث، وتحقيق الوعود المضروبة، والحفاظ على الأمانة، والانضباط في كل المعاملات وضمان حقوق جميع المواطنين كبارا وصغارا، كانت هذه الحقوق مادية أو معنوية، وتوفير المناخ السليم لقيام كل مواطن بواجباته لصالحه ولصالح المجتمع.