فلسفة الأخلاق في الحضارة اليونانية
تمهيد
الأكسيولوجيا أو مبحث القيم مبحث قديم بدأ مع بدايات الفلسفة اليونانية خصوصا عند سقراط وأفلاطون و أرسطو ، وانتقل إلي العصور الوسطى إسلامية ومسيحية ، وحديثا عرض كانط لموضوع القيم في علاقته بالمعرفة ، وفي القرن التاسع عشر نشأت علوم كثيرة بحثت بدورها في موضوع القيم من أنحاء مختلفة ، وفي القرن العشرين كان بول لابي أول من استخدم لفظ أكسيولوجيا كما استخدمه هارتمان عام 1906(1).
القيم الفلسفية الثلاث المعروفة في تاريخ الفلسفة هي : الحق والخير والجمال. وهذه القيم تشكل أحد الميادين التقليدية للفلسفة : ميدان الوجود وميدان المعرفة وميدان القيم. وتعارف الدارسون في مجال الفلسفة علي إن القيم الفلسفية المشار إليها آنفا تشكلا حقولا لثلاثة علوم هي : علم المنطق وعلم الأخلاق وعلم الجمال. كما يمكن تحديد بعض العلوم المعيارية التي تنبثق عن القيم الفلسفية الثلاث وهي علي النحو التالي :-
أولا – قيمة الحق وينبثق عنها :
1 – علم المنطق الذي يدرس مفهوم الحق ويحدد الصفات التي يجب أن تتوفر في الشيء ليكون حقا.
2 – علم القانون الذي يدرس التشريعات التي تمثل الحق والخير والعدالة بين الناس ، وهي التشريعات التي تحدد مفهوم السلطة ، إن كانت عادلة أم غير عادلة.
ثانيا – قيمة الخير وينبثق عنها : علم الأخلاق الذي يدرس الصفات التي يجب أن تتوفر في الفعل الإنساني حتى يمكن أن يطلق عليه سلوك أخلاقي.
ثالثا : قيمة الجمال وينبثق عنها : علم الجمال الذي يدرس الصفات التي يجب أن تتوفر في الشيء حتى يمكن أن يوصف بالشيء الجميل.
علم الأخلاق
علم الأخلاق يؤكد علي قيمة الخير في حياة البشرية. ويعرف بأنه العلم الذي يحدد المعايير للفعل الذي يمكن أن يقال عنه إنه خير(2). وهذا يعني أن فكرة الخير تعد أساسا للسلوك الأخلاقي ، سواء من الناحية الاجتماعية أو الدينية ، حيث نجد ذلك واضح في الحياة الاجتماعية ، من حيث سلوك الناس الأخلاقي الذي تحدده التشريعات الدينية ، وأيضا امتثال الناس للقوانين التي يسنها المجتمع كوسيلة لتنظيم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين الناس. وهذه القوانين تمثل قيما خلقية لابد من مراعاتها والتقيد بها ، إذا ما كانت منبثقة عن قرارات صادرة عن الشعب ، من خلال هياكله السياسية المتمثلة في المؤتمرات الشعبية الأساسية ، مصدر التشريع في السلطة الشعبية.
نشأة الأخلاق
بالرغم من أن الفكر اليوناني قبل سقراط كان مهتما بالبحث في الطبيعة إلا أنه ثمة بعض العبارات البسيطة المتناثرة في شعر الحكمة إبان القرن السادس والسابع قبل الميلاد كان لها أثرها الملحوظ في التفكير الخلقي الذي جاء عند أفلاطون و أرسطو. وإذا استثنينا بعض الشذرات التي خلفها فيثاغورث(500ق.م) و هيراقليطس (540ق.م) الذي كان مبشرا بالمذهب الرواقي ، و ديمقريطس (370ق.م) الذي اتصلت نزعته بالمذهب الأبيقوري ، ويمكن القول إن سقراط كان أول من اهتم بدراسة سلوك الإنسان (3).
الأخلاق اليونانية (500ق.م – 500م) :
1 – السوفسطائيون
رفض السوفسطائيون وأتباعهم رد المعرفة إلي العقل دون الحس ، استنادا إلي أن الحس يخص صاحبه ، وأن العقل حظ مشترك بين جميع الناس ، واتبعوا ديمقريطس في جعل المعرفة تتبع الحس ، و هيراقليطس في أن كل شئ في تغير مستمر ، وانتهوا من هذا علي أن الإنسان مقياس الأشياء جميعا في المعرفة وفي الأخلاق ، فطالما انه ليس لدينا مقياس نعرف به الحق والباطل ، فليس لدينا مقياس نعرف به الخير والشر. وامتدت نظرية السوفسطائيين النسبية إلي مجال الأخلاق ، فأصبحت الأخلاق لديهم نسبية ، تتغير بتغير الزمان والمكان ، وتختلف باختلاف الظروف والأحوال.
ويفسر السوفسطائيون قوانين الأخلاق بأنها ضد طبائع البشر . وأن الإنسان غايته اللذة ، وأن الطبيعة البشرية ليست سوى شهوة وهوى ، وأن الإنسان لن يكون سعيدا إذا خضع لقانون ، وأن الضعفاء والدهماء الذين فشلوا في إشباع أهوائهم سنوا هذه القوانين لقهر الطبيعة وكبح دوافعهم ، حتى يتساوى معهم الأقوياء في الحرمان ، كما أنهم أرادوا بقوانين الأخلاق حماية مصالحهم الشخصية وتفادي الخضوع لسيطرة الأقوياء ، ورأى السوفسطائيون أن الفضائل التي تعارف عليها الناس ليست سوى رذائل مقنعة. فتجميد العفة مرجعه إلي العجز عن إشباع الشهوة ، وامتداح العدل مرده القصور عن التفوق علي الآخرين. ولذا فعلى الإنسان أن يستخدم ذكاءه في إشباع شهواته وتحقيق سعادته ، حتى لو اقتضى الأمر أن يتخفى ويتظاهر بالتقوى والاستقامة.
2 – سقراط (470-399 ق.م)
أراد سقراط أن يعيد المجتمع الأثيني نظامه وأمنه وطمأنينته (حالة الاستقرار) بعد حالة الثورة التي جاءت من السوفسطائيين (حالة حركة) ، وكان علي سقراط لكي يقيم بناء الأخلاق الذي تداعى علي يد السوفسطائيين ، أن يهدم نظريتهم في المعرفة أولا ، حتى إذا وضح موقفه الإبستمولوجي تيسر مد نطاقه إلي مجال الأخلاق ، فقام بتحليل الألفاظ لتحديد معانيها وإيضاح دلالاتها ، ففوت علي السوفسطائيين الاعتماد علي استخدام الألفاظ وغموض معانيها.
اهتدى سقراط بالعقل إلي الحقائق الثابتة في مجال المعرفة ، توصل عن طريقه إلي القيم المطلقة في مجال الأخلاق ، وبدت الطبيعة البشرية جسما وعقلا يسيطر علي نزوات الحس وأهوائه. فأصبحت قوانين الأخلاق تتعارض مع الجانب الحيواني في طبيعتنا ، وتتمشى مع الطبيعة العاقلة فينا ، ولذلك وجب احترامها وطاعتها وعقاب الخارجين عليها . وأصبح العلم عند سقراط هو العلم بالنفس لأجل تقويمها مؤكدا شعار "أعرف نفسك بنفسك".
يقول سقراط أن الإنسان هو الروح وهو العقل الذي يسيطر علي الحس ويدبره(4). وأن من يحترم القوانين العادلة يحترم العقل والنظام الإلهي. والإنسان في نظر سقراط يريد الخير دائما ويهرب من الشر بالضرورة. فالإنسان إذا عرف حقيقته وماهيته معرفة يقينية ، فإنه لابد أن يكون فاعلا للخير ، أما الشهواني فهو يجهل نفسه وخيره . ولا يعقل أنه يرتكب الشر عمداً وعلى ذلك فالفضيلة علم ، والرذيلة جهل . وتناول الأمور في جوهرها وحقيقتها الكامنة فيها دون الاهتمام والعناية بما هو عرض زائل فالمال مصيره الزوال وكذلك الجمال والصحة والمركز السياسي والنسب والحسب فكلها إلي الزوال. أما ما يبقى ويستقر ويتصل ويدوم ، فهي فضائل النفس والروح التي تسبب لصاحبها الطمأنينة وراحة البال والقناعة.
ويتأكد موقف سقراط من المشكلة الأخلاقية بقولنا أن العدالة وسائر الفضائل الأخرى تتلخص في الحكمة أو معرفة الخير وهو يؤكد أن السلوك هو الاختيار الصحيح ، والرجل الشرير مجبر بالجهل علي أن يفعل ما يناقض رغبته الحقيقية التي تتجه على الدوام نحو خيره الأسمى ، والمعرفة وحدها هي التي تطلق عقاله وتجعله حرا في تحقيق رغباته.
وبذلك يتضح لنا أن سقراط أراد بناء الأخلاق على العقل ، فألغي بذلك ردها إلي سلطة خارجية تتمثل في الآلهة أو العرف أو غيرها مما كان متعارف عليه آنذاك. كما أنه جعل قواعد الأخلاق ثابتة غير متغيرة ، وجعل مقياس الخير والشر لا يتوقف على مصالح الناس ، كما أنه صالح لكل زمان ومكان.
وقد واصل تلاميذ سقراط حمل عبء التفكير الأخلاقي بعده ، ومنهم أفلاطون و أنتستيتر الذي أنشأ المدرسة الكلبية ، و أرستيبوس الذي أسس المدرسة القورينائية.
3 – أفلاطون (428-347 ق.م)
ساير أفلاطون أستاذه سقراط في موقفه من اتجاه السوفسطائية في مجالات المعرفة والأخلاق. فقد عارض اتجاه السوفسطائيين في رد المعرفة إلي الحواس وإنكار المبادئ المطلقة في مجال الأخلاق ، وانتهى أفلاطون إلي أن وراء إدراك عوارض الأشياء والمعرفة الظنية بالمحسوسات تقوم الماهيات المتحققة في الأشياء ، و الماهيات المفارقة للمادة وهي المثل التي تعتبر مبادئ المعرفة. واعتبر أفلاطون الخير الأسمى هو مصدر الوجود والكمال. وهكذا ابطل أفلاطون نسبية الحقائق في مجال المعرفة ، ونسبية القيم في مجال الأخلاق ، وأبطل رد الخير إلي اللذة ، فلم تعد الفضيلة قائمة في لذة الفرد الحسية ، كما زعم السوفسطائيون ، وإلا استحال التمييز بين الخير والشر ، لأن الفعل الواحد قد يسبب لذة لفرد وألما لآخر. وإذا كان السوفسطائيون قد أقاموا الأخلاقية علي الوجدان ، فقد عارضهم أفلاطون بإقامتها علي أسمى جانب مشترك بين الناس ، وهو العقل. كما رفض أفلاطون أن تهدف الخلقية إلي غاية تقوم خارجها ، أي في نتائجها وآثارها ، بل قال إن الفعل الخلقي يتضمن جزاءه في باطنه ، بمعنى أن الإنسان الفاضل لا يقدم علي الفعل الخير رغبة في تحقيق لذة أو جلب منفعة ، وإنما يرغب في فعل الخير لذاته ، باعتباره غاية.
يرى أفلاطون أن الوجود عالمين : عالم المثل وعالم المحسوسات. عالم المثل هو العالم الحقيقي، عالم العقل ، عالم الخير ، عالم الله. أما عالم المحسوسات فهو عالم المادة ، عالم اللذات ، عالم الشر. ومن هنا ينقسم وجود الإنسان إلي عالم الدنيا وعالم الآخرة ، عالم الروح (العقل) وعالم الجسد ولذاته. فمن اتبع العقل ، ارتفع إلي عالم المثل ، عالم الخير. ومن اتبع أهواءه غرق في عالم الرذيلة ، عالم الشر. ولذلك فعلى الإنسان أن يحرر نفسه باستئصال شهواته وتحرير نفسه من قيود الجسد ، وذلك باتباع عقله والسمو بنفسه في مجال المعرفة العقلية ، فالمعرفة العقلية هي خير سبيل للوصول إلي عالم المثل ، عالم الخير الأقصى.
لكن أفلاطون مع ذلك يرى أن للذة علاقة بالخير ، ولم يعتبرها شرا ، إن هي خلت من الألم. ومع ذلك فاللذة عنده ليست هي اللذة الحسية ، بل هي الاغتباط بالحكمة. ومن هنا يؤكد أفلاطون إن الحياة الحكيمة هي المطلب الحقيقي للنفس ، وأن الجهل هو علة الإعراض عنها والامتناع عليها. وهكذا يريد أفلاطون أن تتخلص النفس من سجنها وهو الجسم ، ولا يكون هذا إلا بإماتة الرغبات والأهواء والانصراف عن اللذات ، والإقبال علي حياة الزهد والحرمان (الصوفية) هكذا يصبح عالم الحس كله شر ، يجب الابتعاد والانفصال عنه رويداً رويداً ، حتى تصبح الحياة الفاضلة هي العيش والتأمل في عالم المثل وهو التأمل الفلسفي القائم علي النفس الناطقة ، ومن هنا تصبح الفلسفة – وهي معرفة عالم المثل – هي المقوم الوحيد للخير الأقصى.
4– المدرسة الكلبية
أسس هذه المدرسة أنتستيتر (444-365 ق.م) وهو أحد تلاميذ سقراط ، والذي تجاهل فلسفة أستاذه وتأثر فقط بسلوكه العملي ، عندما حرص علي التمسك برأيه مع الاستخفاف بآراء غيره ، واستقلاله بنفسه ، واستغنائه بحكمته عن خيرات الدنيا و طيباتها ، ومن هنا جاء اهتمام المدرسة الكلبية برياضة النفس على التحرر من متع الحياة ومباهجها ، فجاهروا بان الفضيلة إنكار كامل لمتع الحياة ، وزهد مطلق في ملاذ العيش ، وقمع تام للذات ، وإماتة لشهواتها.
بالغ الكلبيين في فكرة سقراط (بأن المعرفة لا تكون ذات قيمة عليا ما لم تكن معرفة خلقية) واحتقروا كل الفنون والعلوم ، واستخفوا بالقيم الاجتماعية المألوفة ، وقال انتستيتر إن الفضيلة تكفي لتحقيق السعادة ، والفضيلة لا تحتاج إلي علم ، لأنها تتحقق بالتجرد من الرغبات والتحرر من المطالب ، حتى أنهم جعلوا التخلي عن الملكية شرطا للانضمام إلي جماعتهم ، لأنهم يروا بعدم الاكتراث بخيرات الحياة من ثروة ولذة وملكية ، ورفضوا اعتبار المرض أو الموت أو العبودية شرا، وحاربوا اللذة مقتدين بانتستيتر الذي قال "إنني أفضل أن أصاب بالجنون علي أن أشعر باللذة" (5)، وعاشوا مثله علي الطبيعة والتقشف والحرمان ، وقنعوا بالإقامة في المعابد ونحوها من الأماكن العامة ، وحملوا العصا في أيديهم ، والجراب علي ظهورهم ، وراحوا يجوبون الشوارع طلبا لقوت يومهم وعاشوا حياة البؤس والتشرد ، عيشة الكلاب الضالة ، حتى أطلقوا عليهم اسم الكلبيين.
5– المدرسة القورينائية (6)
أسس المذهب القورينائي أرستيبوس (435-366 ق.م) الذي ولد في مدينة قورينا (شحات) في شمال شرق ليبيا عام 435 ق.م ، ويبدو أن أرستيبوس قد تتلمذ في سبابه علي يد السوفسطائيين أولا ، واستلهم منهم النزعة الحسية في مجال السعادة ، ثم تتلمذ علي يد سقراط ، وأخذ عنه الكثير في مجال الحكمة ، لكنه نحا بها نحو التطرف. فقد كان سقراط يدعو إلي أن الحكمة خير ما يملك الإنسان ، وقد اتفقت جميع المذاهب السقراطية معه في ذلك ، لكنها اختلفت في مفهوم الحكمة والسعادة.
وكان أرستيبوس قد راقته فكرة السعادة في مذهب أستاذه سقراط ، فأقام عليها مذهبه ، غير أنه اتجه نحو التطرف ، فقد وحد بين المنفعة واللذة والسعادة ، واستند غلي القول بأن الغاية الوحيدة للفضيلة هي المنفعة ، وجاهر بالدعوة إلي اللذة كغاية قصوى لحياة الإنسان. وكان هذا التطرف قد وقع عليه أيضا من تأثير بروتاجوراس وغيره من السوفسطائيين. وعندئذ انتهى إلي إقامة الأخلاق علي وجدان اللذة.
مذهب أرستيبوس يقوم علي أن اللذة هي الخير الأقصى ، وهي غاية الحياة ومعيار القيم ، ومقياس الأحكام الخلقية. وصرح بأنها نداء الطبيعة فمن الضلال أن نستحي من إروائها أو نتردد في إرضائها. وإذا كان العرف الاجتماعي لا يبيح المجاهرة بإشباعها ، وجب احتقار العرف والاستخفاف بالأوضاع الاجتماعية المألوفة. "وهكذا أنكر القورينائية لذات العقل والروح ، واقتصروا علي القول بأن اللذة الحسية العاجلة خير أقصى ، وما عاق إرواءها شر" (7) ، ولما كان هذا الأمر لا يتم إلا بكبح الشهوة التي ينتج عنها فقدان الحياة لبهجتها ، أجاز المذهب القورينائي الخلاص من الحياة بالانتحار ، الأمر الذي أدى بالفعل إلي انتشار هذه الظاهرة في قورينا ، مما دفع بالملك بطليموس نفي خلفاء أرستيبوس وإغلاق مدرستهم. الأمر الذي أدى بأتباع المدرسة برفع شعار "السعادة هي اللذة التي لا يعقبها ألم" والقول : إن الحكيم هو من يضحي بنفسه من أجل أصدقائه وأفراد أسرته(
.
6– أرسطو (384-322 ق.م)
أرسطو كان أقرب إلي الواقع من أستاذه أفلاطون ، وكان منهجه يختلف عنه ، فلسفة أفلاطون عقلية تصورية مثالية ، وفلسفة أرسطو كانت عقلية تصورية واقعية ، وبهذا يكون أرسطو قد أنزل الفلسفة من السماء إلي أرض الواقع ، وهو أول من جاهر بأن الأخلاق علم عملي يهدف إلي تحقيق غاية بدون هذه الغاية يستحيل علي الإنسان أن يقوم بفعل أو تصرف. وأن الخير الأقصى الذي يجب أن نختاره لذاته لا لغاية أبعد منه وأنه يكفي وحده لإسعاد الإنسان. وأن علم الأخلاق ينظر في أفعال الإنسان بما هو إنسان ، ويديرها علي هذا الاعتبار. والإنسان مدني بطبعه ، لا يبلغ الكمال إلا في المدينة وبمعونتها ولتدبير المدينة علم خاص هو علم السياسة. وعلم الأخلاق جزء من العلم السياسي.
ويرى أرسطو أن أهم عنصر في الحياة الخيرة عند عامة الناس يقوم في فعل الخير كما يحدده تصور الكمالات الخلقية المختلفة. وعندما فصل أرسطو في عرض هذه الكمالات قدم خلال عرضه ملاحظته التحليلية الخالصة للشعور الخلقي الشائع في عصره وهو يري أن الحقيقة الفيزيقية تدرك باستقراء مشاهدات فيزيقية معينة ولما كانت أحكام الناس بصدد الخير والشر تختلف ويتعارض بعضها مع البعض تلاشى الأمل في إدراك الموضوعات الأخلاقية في وضوح تام ويقين مؤكد ومع هذا فإن التأمل ينتهي بنا إلي إغفال وجهات النظر المتعارضة والتوفيق بين سائرها. ومعرفة الخير الأعظم هي الغاية القصوى للإنسان ، الذي يتوقف عليه توجيه الحياة ، ويذهب كافة الناس إلي إن الخير الإنساني الأعظم والأقصى هو السعادة.
ارتبط موقف أرسطو في الفضيلة بمفهوم السعادة التي تقوم علي العقل والنفس. وكانت الفضائل نوعين أو صنفين. صنف يتمثل في التغذي والحس ، وصنف يتمثل في حياة التأمل والنظر المجرد . وتقوم فضيلة الصنف الأول في إخضاع الشهوات والأهواء لسلطان العقل. أما حياة التأمل فأسمى بكثير أنها ترتفع بالإنسان إلي أعلى المراتب. وعلي هذا الأساس تعتبر الفضائل عند أرسطو صنفين : فضائل خلقية وأخرى عقلية. والفضائل الخلقية تتكون بالتربية والتعود ن وتنشأ الفضائل العقلية عن طريق التعلم، ومن اجل هذا وجب علي المشرع أن يروض مواطنيه علي تعود العادات الطيبة، لأن الفضائل إنما تكتسب بالمران والتعود وعندئذ تقترن مزاولتها بالإحساس بالمتعة. بل إن الفضيلة لا تكون فضيلة إلا متي أصبحت عادة تصدر عن صاحبها في يسر وسهولة حتى يجد في مزاولتها لذة ، ومن وجد في مباشرة الفضيلة مشقة أو عناء فإن ذلك يدل علي عدم استعداد الشخص لعمل هذه الفضيلة ، فاللذة ترشد إلي الفضيلة وتقترن بها ، وهكذا تبدو قيمة اللذة وصلاحيتها كأداة للتربية والتهذيب.
ويؤكد أرسطو أن الفضيلة التي نجني منها الخير قد تضرنا حين نستعملها بإفراط أو تفريط. فالغذاء المعتدل يعطي الصحة وينميها. بينما الغذاء المفرط والغذاء الغير كافي يمنعان الصحة. وهذا مايسميه (الوسط الذهبي) ، فكل فضيلة وسط بين طرفين كلاهما رذيلة فالشجاعة وسط بين التهور والجبن . ويري أن الفضيلة ملكة ، والممارسة شرط نمو الملكة واستقرارها في الفضيلة. فالفضيلة تتطلب علاوة علي العلم وقبل كل شئ ، أن يحقق الفاعل في نفسه شرطين آخرين هما : استقامة النية أي اختيار الفعل لذاته ، ثم المثابرة أي أن يصدر الفعل عن ملكة ثابتة. وليست الفضيلة وسطاً حسابيا بين الإسراف والتقتير بل هو أقرب إلي الإسراف منه إلي التقتير ، وكذلك الاعتدال وسط بين الغرور والمسكنة أو الذل ، والتواضع وسط بين الخجل وانعدام الحياء والدعابة وسط بين المجون والفظاظة. فالوسط هنا وسط اعتباري يتغير بتغير الأفراد والظروف التي تحيط بهم. والعقل وحده هو الذي يعين هذا الوسط مع مراعاة ظروفه. بل إن من الأفعال والانفعالات ما ليس له وسط كالسرقة والقتل والحسد ونحو ذلك مما يعتبر رذيلة. الفضيلة هي ملكة اختيار ، الاختيار الصادر عن الإرادة. والفعل الإرادي هو الصادر عن معرفة ونزوع فلا يجب أن تخضع أفعالنا لعامل الخوف ، أو اتقاء شر أعظم أو ابتغاء خير أعظم(
.
الخاتمة
تأثرت فلسفة الأخلاق عند اليونانيون تبعا لنظرية المعرفة ، فالحسيون كانوا لا يخضوعون لأي مانع لتحقيق غاية الإنسان المتمثلة في اللذة الحسية ، ومنهم السوفسطائيون والمدرسة القورينائية وبنا العقليون الأخلاق علي العقل والعلم ومنهم سقراط و نسب أفلاطون الأخلاق إلي عالم المثل (العقل أو الروح) بمنهجه العقلي التصوري المثالي وقامت فلسفة أرسطو علي العقلية التصورية الواقعية والذي أخضع الشهوات والأهواء لسلطان العقل وغلب عليها حياة التأمل والنظر المجرد التي يرتقي بها الإنسان إلي مراتب متصاعداً إلي المطلق ، وجعل الفضيلة بين طرفين كلاهما رذيلة ، وأكد علي الوسط الذهبي بين الرذيلتين وهذا الوسط الاعتباري يتغير بتغير الأفراد والظروف التي تحيط بهم. والعقل وحده هو الذي يعين هذا الوسط مع مراعاة ظروفه ، والرذيلة هي ما ليس لها وسط ، والفضيلة هي ملكة اختيار من إرادة الإنسان نفسه الصادر عن المعرفة . وتطرف الكلبيين فجاهروا بان الفضيلة إنكار كامل لمتع الحياة ، وزهد مطلق في ملاذ العيش ، وقمع تام للذات ، وإماتة لشهواتها،وأن الفضيلة لا تحتاج إلي علم ، وتمسكوا برأيهم ونبذوا ما خالفهم .
الهوامش
1) المدخل إلي الفلسفة ، علي عبد المعطي محمد ، دار المعرفة الجامعية ، 1999ف ، ص407.
2) مدخل جديد إلي علم التفسير ، يوسف حامد الشين ، الإسكندرية : دار الأندلس ، 2003ف ، ص 78.
3) مدخل جديد إلي علم التفسير ، يوسف حامد الشين ، الإسكندرية : دار الأندلس ، 2003ف ، ص 79.
4) المدخل إلي الفلسفة ، علي عبد المعطي محمد ، دار المعرفة الجامعية ، 1999ف ، ص421.
5) الفلسفة الأخلاق ، توفيق الطويل ، مؤسسة المعارف ، الإسكندرية ، ط1 ، 1960ف ، ص 65.
6) راجع الفلسفة القورينائية ، عبدالرحمن بدوي ، دار ليبيا للنشر والتوزيع ، بنغازي ، 1969ف.
7) الفلسفة الأخلاق ، توفيق الطويل ، مؤسسة المعارف ، الإسكندرية ، ط1 ، 1960ف ، ص 69.
مدخل جديد إلي علم التفسير ، يوسف حامد الشين ، الإسكندرية : دار الأندلس ، 2003ف ، ص 86.
9) المدخل إلي الفلسفة ، علي عبد المعطي محمد ، دار المعرفة الجامعية ، 1999ف ، ص430