متن القصة:
:"حدث ذات يوم في الجبل الأقرع" لأحمد بوزفور
سافر في الليل. كا ن قد جهز كل شيء.. وكان ينبغي أن يملأ خزان النفط ثلاث مرات على الاقل قبل أن يصل إلى ( الجبل الاقرع).. جبل الغزلان...سار مسافة طويلة على الرمال الندبة قبل أن يقف، أطفأ المحرك. وخرج.. واستنشق الصباح المتفتح. ثم قال لنفسه: ينبغي ألا اضيع الوقت. حمل البندقية القمها الرصاصتين.. ثم انطلق إلى الجبل.. وقف، فنزلت قدمه واستوى جالسا.. رمي البندقية في غضب.. فجأة.. سمع حكة خفيفة، التفت فرأى غزالة تجري.. اسرع إلى البندقية.. أطلق الرصاص في لهوجة فأخذها.. جرى من ورائها فلم يلحقها.. جلس حزينا..ر مى البندقية.. استلقى ونظر إلى السماء.. وفجأة أخد يبكي.. شهيق.. والتقطت اذنه حركة خفيفة.. اقتربت الحركة.. فغرقت.. في عينيه الباكيتين عينان واستعان سوداوان.. وكانت الغزالة تطل عليه..قربت فمها من عنقه..شمته.. فانتفض واقفا وهو يحاول أن يمسكها من قرنيها.. ولكنها افلتت. أسرع إلى البندقية واطلق الرصاص.. ولا رصاص.. أخرج الرصاص.. شجن بين النار وهو يلتفت..
كانت الغزالة قد اختفت.. غضب.. التفت إلى قمة الجبل غاضبا.. رمى البندقية.. وأخد يجري.. ارتمى على الرمل منهكا.. حاول أن ينام.. فجأة أحس بانفاس رخية تداعب قفاه.. انقلب على ظهره وبقي مستلقيا. نظر إليها.. ابتسم في حزن خاطبها متلعثما: أنا حزين ياسيدي..حزين وتعب مريض.. انت لا تفهمنني.. أنا هارب..ورائي المدينة..ورائي الحديد والجدران..هل تفهمينني؟..سرطان من الازقة والجدران والسيارات والأعمدة والأضواء والكلمات..أنا هارب.. ولكنني مصاب .. هل تفهمينني؟ أصابني السرطان في كبدي من الطلقة الأولى.. أنا هناك وهنا.. المدينة هي التي أطلقت عليك النار لا أنا..آه لو فهمت يا سيدي..
جلس.. وضع يديه على ركبتيه.. وضع عليهما رأسه وانخرط في البكاء.. اقتربت منه.. شمته..ضحك في صمت.. آه لو فهمت؟.. كيف يحكي لها؟.. ماذا أقول؟ الوادع ياسيدي.. أنا إنسان مدنس..اعذريني.. سامحيني.. لوثت صمتك الطاهر بالرصاص.. والكلام.. وداعا. تباع الجلوس قليلا.. ثم نهض.. وأحد يهبط الجبل في إعياء.. وذهنه فارغ..سار هبط .. تكسر الضوء في عينيه.. رأى بندقيته. انعطف إليها .. حملها.. التفت..فرأى الغزالة تنظر إليه صامتة.. كان ذهنه فارغا. أدار البندقية.. صوبها في هدوء أطلق النار.. وهذه المرة اصابها.
تحليل قصة: "حدث ذت يوم في الجبل الأقرع
عرف الأدب العربي القديم أشكالا نثرية متعددة من مقامة، وخطابة، وخبر، وحكاية عجائبية، ورحلة، ولم تقف الأشكال النثرية في تطورها عند هذا الحد، بل ظهرت فنون نثرية جديدة نتيجة ما حصل من تطور ثقافي واجتماعي وحضاري، حيث أثمر هذا التطور فن الرواية والمسرحية والقصة والقصة القصيرة، وفي وقت متأخر القصة القصيرة جدا، وقد ظهرت القصة القصيرة نتيجة عدة عوامل؛ كالترجمة، وانتشار الصحافة، والمثاقفة مع الحضارة الغربية، ويقوم هذا الفن الجديد على الحدث، والشخصيات، والزمان، والمكان ،والعقدة والحل والحبكة ،ويتميز بقلة الكم ووحدة الانطباع واللحظة الزمنية، ومن رواده في الأدب العربي : يحيى حقي، محمود تبمور، عبد الكريم غلاب، عبد المجيد بن جلون، ويعد صاحب النص أحمد بوزفور من الذين أبدعوا في هذا الفن وضربوا فيه بسهم، وله عدة مؤلفات قصصية منها : " صياد النعام " و" النظر في الوجه العزيز "، الذي اقتطف منه هذا النص، فما الموضوع الذي يعالجه الكاتب في نصه ؟ وما الوسائل الفنية الموظفة للتعبير عنه ؟
جاء عنوان النص جملة فعلية متسما بالطول والغرابة، ونجـده ضاما لثلاثة عناصر هي: الحدث والزمـان والمكان، ونفهم من عنوان النـص أن شيئا ما حدث في وقت ما في مكـان يدعى الجبل الأقرع، فإلـى أي حد بعكس العنوان مضـامين القصة؟
وانطلاقا من العنـوان " حدث ذات يوم في الجبل الأقـرع " وشكل النص وبعض المؤشـرات من قبيل : " سافر في الليل، سار مسـافة طويلة، قـد بث فمه من عنقه، انخرط في البكاء، صوبها في هدوء..." نفتـرض أن النص قصة قصيرة ذات طابع واقعي واجتماعي، يعالج فيها الكاتب معاناة إنسان المدينة وسعيه إلى الترويح عن نفسه. فـإلى أي حد تصح هذه الفـرضية ؟ وما الرهان الذي راهـن عليه الكاتب ؟
عبر الكاتب في قصته عما يعانيه إنسان المدينة من قلق نفسي، وضغط اجتماعي يؤثر عليه نفسيا وفكريا، ويبرز طبيعة واقع المدينة ،و بدأت القصة بسفر البطل وهو نموذج لإنسان المدينة المريض نفسيا، ووصوله إلى مكان يسمى بالجبل الأقرع وفي نيته أن يتخلص من معاناته النفسية عن طريق الصيد، وبعد مرور وقت ليس بالقصير سمع حركة غزالة حاول اصطيادها لكنه فشل في الأمر، مما عمق لديه الإحساس بالفشل والإحباط ،وزاد من ضغطه النفسي فاستسلم للبكاء، وقرر دون أن يشعر أن يوجه الخطاب للغزالة باثا لها معاناته، وبعد طول إعياء استطاع أن يصيد الغزالة ويحقق هدفه.
***61556; صور الكاتب في قصته الواقع المرير لإنسان المدينة، حيث أبرز ببراعة حجم معاناته النفسية والاجتماعية، وكثرة ما يعتمل بداخله من ضغوط تجعله قلقا متوترا، مكتئبا.
تقوم الشخصيات بدور فاعل في تحريك الأحداث، وتؤدي أدوارا مختلفة تسهم من خلالها في التطور الدرامي للقصة، ويمكن الوقوف في القصة المدروسة على نوعين من هذه الشخصيات نبينها في الآتي :
***61692; شخصيات رئيسية : تتمثل في شخصية البطل، وهو إنسان ينتمي إلى المدينة، يعاني نفسيا، يسيطر عليه القلق والتوتر، هارب من المدينة ،ميسور الحال لأنه يمتلك سيارة، يمارس الصيد، وتمثل شخصية البطل نموذج إنسان المدينة الذي يعاني نفسيا، وإلى جانب شخصية البطل يمكن عدُّ التوتر والقلق قوتان فاعلتان في تطور الأحداث.
***61692; وشخصيات ثانوية : وهي الغزالة التي تمثل الهدف والسبيل إلى التخلص من المعاناة، وسكان المدينة الذين يمثلون السبب في معاناة البطل وسفره، إضافة إلى قوى فاعلة أخرى كالبندقية، والسيارة، والرصاصة، وقد قامت هذه الشخصيات الثانوية بدور المساعد الشخصية البطل الرئيسية، وأسهمت في تطوير الأحداث وتنميتها دراميا، وعموما أدت الشخصيات بنوعيها دورا في تحريك خيوط الأحداث والسير بها إلى نقطة النهاية.
ويعد الزمان والمكان عنصرين بالغا الأهمية في البناء القصصي إذ يمثلان الفضاء والإطار والمجال الذي تقع فيه الأحداث وتتحرك فيه الشخصيات، فبالنسبة للإطار الزمني وقعت القصة بين الليل والنهار، لكن السارد ركز على لحظة الصيد وذلك عائد إلى الرغبة في إبراز التوتر النفسي الذي تعيشه الشخصية، واتسم الزمان بالتصاعد، أما بالنسبة للفضاء المكاني فقد دارت أحداث القصة في أمكنة متعددة، كالطريق والجبل الأقرع والمدينة وتحمل هذه الأمكنة دلالات متباينة، إذ تدل المدينة على الضغوط والقيود والتوتر، فيما يرمز الجبل الأقرع إلى الحرية والراحة النفسية والهدوء. وقد تفاعل كل من الزمان والمكان في رسم معاناة البطل وتسليط الضوء على واقع إنسان المدينة النفسي والاجتماعي,
وقد اعتمد الكاتب تقنيات عدة في معالجة موضوعه حيث وظف السرد الذي هيمن هيمنة مطلقة لما له من دور في نقل الأحداث وتسلسلها والإخبار، ومن نماذج السرد في النص نذكر : " سافر في الليل، كان قد جهز كل شيء " وإذا عرجنا ناحية الرؤية السردية وجدنا الكاتب عالما بكل التفاصيل ومحيطا بكل الجزئيات، ما يعني أن الرؤية المهيمنة هي الرؤية من خلف لذا فالسارد متوارٍ عالم بكل صغيرة وكبيرة، وإلى جانب السرد نجد حضورا للوصف الذي استغله الكاتب للإيضاح وتقريب المعنى والصورة من المتلقي ومن نماذجه " حزين، وتعب ومريض، أخذ يهبط الجبل في إعياء.." أما الحوار فيحضر بنوعيه، حوار داخلي، تخاطب فيه الشخصية ذاتها كقولها " ينبغي أن لا أضيع الوقت "، ويبرز هذا الحوار ما تعانيه الشخصية من توتر داخلي وتأزم نفسي جعلها تلجأ إلى مخاطبة نفسها ،والنوع الثاني هو الحوار الخارجي ومن أمثلته في النص ما جاء على لسان البطل : " أنا حزين يا سيدتي، أنا هارب، أصابني السرطان "، وتكمن أهمية الحوار الخارجي في إفصاحه عن أفكار الشخصية وأحاسيسها والتعبير عن موقفها. وهكذا يتضح أن وظيفة الحوار تتمثل أساسا في تكسير رتابة السرد ورفع وصاية السارد عن الشخصيات وجعلها تتكلم بلسانها، وتفصح عن دواخلها،
***61556;ومما سبق يتبين لنا أن الكاتب نوع في قصته بين السرد والوصف والحوار ،وذلك بغية خدمة المعنى وجعله واضحا في ذهن القارئ، إضافة إلى خلق نوع من التشويق والتنوير درئاً للرتابة والنسق الواحد.
.
وفيما يخص الخطاطة السردية فالملاحظ أن عناصر القصة مرتبطة فيما بينها ارتباط الجلد بالعظم، حيث لا يمكن بـأي حال من الأحوال الفصل بينهما، وهكذا جاءت القصة محبوكة ودقيقة التصميم، ويمكن الوقـوف على مراحل الخطاطة السردية فيما يلي :
***61692; وضعية البداية : سفر البطل إلى الجبل الأقرع هاربا من ضغط المدينة قصد التخلص من معاناته؛
***61692; العنصر المخل : سماعه حركة الغزالة الخفيفة؛
***61692; وضعية الوسط : محاولة البطل اصطياد الغزالة وفشله في ذلك، ازدياد توتره وضغطه النفسي؛
***61692; عنصر الانفراج : رؤية البندقية؛
***61692;وضعية النهاية: التمكن من صيد الغزالة.
***61556; ويتضح من خلال هذه المراحل أن هناك تسلسلا منطقيا بين سائر الأحداث، حيث يرتبط لاحقها بسابقها ويؤدي سابقها إلى لاحقها في تسلسل منطقي وسلسلة لا تنفصم حبات عقدها، وقد أدت الخطاطة دورا في جعل أحداث القصة مفهومة وقابلة للتأويل، أما أثرها الجمالي فيبدو جليا في إيهام القارئ بواقعية الأحداث والشخصيات، وكأن ما يحكيه السارد وقع بالفعل.
صور الكاتب في قصته واقع إنسان المدنية الذي يعاني من كل الضغوط النفسية والاجتماعية وقد اختار لبيان ذلك نموذجا إنسانيا ينتمي إلى المدنية ويفر منها هاربا من واقعا المريض، ولخدمة قصديته وإيصال فكرته وظف لغة سردية قصصية يجمع فيها بين المجاز تارة والوضوح تارة أخرى، إضافة إلى تنويعه في طرق الحكي؛ حيث استخدم السرد والحوار والوصف، زد على ذلك اعتماده الرؤية السردية من خلف، وقد راهن في قصته على انتقاد واقع المدينة الذي أفرز نماذج بشرية متأزمة، ونخلص إلى إثبات صحة الفرضية وانتماء النص إلى جنس القصة القصيرة، ذات الاتجاه الواقعي، وفي اعتقادنا نجح الكاتب نسبيا في انتقاد واقع المدينة غير أنه لم يوفق أحيانا في ذلك نظرا لمبالغته في الخيال وإطلاق العنان له، وإذا كان الكاتب قد عالج في قصته موضوعا اجتماعيا فهل كان وفيا للموضوعات الاجتماعية في باقي قصص مجموعة ؟.
سعيد بكور-أستاذ اللغة العربية وآدابها