الموضوع الثاني
القولة:
«يشكل وجود الغير تهديدا لتجربة الأنا، ومع ذلك، فإنه يوجد في جزء كبير منها على شكل إغناء لها».
هل تتفق مع هذا القول ؟
[امتحان تجريبي]
الإنشاء
إذا كان "الأنا" هو الحقيقة الثابتة والحاملة لكل الحالات النفسية والواعية الفكرية في شخصية الإنسان...، وإذا كان "الغير" هو أنا آخر يشبهها في كونه ذاتا واعية وفي نفس الوقت يختلف عنها...، فإن هذه القولة التي بين أيدينا تتأطر ضمن مجزوءة الوضع البشري بشكل عام، ودرس الغير بشكل خاص وخاصة في إطار الإشكالية المتعلقة بوجود الغير بالقضايا التي يطرحها هذا الوجود.
وانطلاقا من هذا المنظور يمكن طرح الإشكال التالي فهل فعلا أن وجود هذا الغير أو الآخر يشكل تهديدا لتجربة الذات الإنسانية كأنا، أم العكس من ذلك أنه يغنيها ويطورها ؟؛ والذي تتفرغ عنه أسئلة فرعية بمعنى كيف يمكن طرح هذا الوجود ؟ وما علاقته بوجود الذات : هل هي تتحدد انطلاقا من الصراع والتهديد والسلب للأنا، أم بأهمية البيذاتية والتواصل والحوار والوجود المشترك مع الأنا ؟
للإجابة على هذا الإشكال، هناك فريق من الفلاسفة يدعي بأن وجود الغير أو الآخر قد يشكل تهديدا لتجربة وجود الذات، إما البعض الآخر فيؤكدون على أنه قد يشكل هذا الوجود إغناء لها. وهذا ما يرشحنا إلى طرح السؤال التالي : فما المقصود إذن بلفظتي التهديد والإغناء عندهم ؟ وما هي المفاهيم والحجج التي وظفوها هؤلاء الفلاسفة لتأكيد هاذين المفهومين ؟
إن "مفهوم التهديد" تبلور مع فلسفة (فريدريك هيغل) الألماني المثالي المطلق في كتابه (فينومولوجيا الروح) كممثل للاتجاه الأول، والذي يتجلى في تلك العلاقة التصراعية ما بين الآخر والأنا، ذلك أن كل ذات ترغب في أن يعترف بوجودها من طرف ذات أخرى تواجهها، والسعي الحقيقي للوعي بالذات هو أن يجد ذاته في الآخر. فالآخر لا يتجلى للذات، ولا يتم الاعتراف بوجوده كمغايرة إلا من خلال فكرة صراع الذوات، فهو يقول : «ليس الوعي بالذات هو معرفة الأنا لذاته، بل هو التعرف على ذاته في موضوع غريب عنه».
ويأخذ هذا التهديد معنى أساسيا مع الفيلسوف الألماني الوجودي المعاصر (مارتن هايدغر) في مقالته (الوجود والزمن)، الذي مفاده أن الوجود الإنساني الراهن عندما يوجد في الحياة المشتركة مع الغير يفقد ما يميز هويته كإختلاف، إذ يشبه جميع الناس وكأنه لا أحد [مثلا في الإستعمال اليومي لوسائل النقل، أو في الإستفادة من الخدمات الإعلامية كقراءة الصحف...]. وفي إطار ذلك يقول : «إن الموجود –هنا [وجود الإنسان بما هو إنسان يتجاوز وجود الأشياء]، باعتباره وجودا فرديا خاصا، لا يكون مطابقا لذاته، عندما يوجد على نمط الوجود -مع- الغير [الحياة الإجتماعية التي تحدد وجود الذات]».
كما يتحول هذا التهديد إلى صراع ضروري مع الفيلسوف والأديب الفرنسي الوجودي (جون بول سارتر) في مقالته (الوجود والعدم)، باعتبار أن كل ذات تحاول أن تشيئ الأخرى لتشل أو تسلب إمكاناتها من خلال النظرة، ولكن هذه اللحظة ضرورية من أجل أن تحقق الأنا وعيا بذاتها بوصفها ذاتا حرة متعالية. معنى ذلك أن هذا الفيلسوف يحلل وضعية الأنا في مواجهته لنظرة الغير، إذ تتعالى الأنا على وضعية العبودية التي هي شرط يفرضه وجود الغير، إلا أنه ظرف ضروري لوجود الأنا كحرية، وبصدد ذلك يقول : «فأنا عبد بالقدر الذي يرتبط فيه وجودي بحرية ليست هي حريتي، لكنها الشرط الأساسي في وجودي».
إذن، يمكن أن نستنتج من خلال هذا الفريق أن وجود الغير يشكل فعلا تهديدا لوجود تجربة الذات الإنسانية كأنا من خلال الصراع والتهديد والسلب أو التشيئ... والسؤال التي يطرح نفسه الآن هو : ألا يمكن تصور موقف آخر معارض لهذا المنظور ؟ ألا وهو أن وجود الغير يعني ويطور وجود تجربة الذات الإنسانية ؟ وما حجته في ذلك ؟
نعم ! إن هناك أطروحات أخرى مغايرة لهذا الطرح، ترى في وجود الغير إغناءا لوجود تجربة الذات كأنا. وخير مثال لهذا نجد الفيلسوف الألماني الفينومولوجي (ماكس شلير) في كتابه (طبيعة التعاطف وشكله)، التي يبين أن بين الأنا والغير تجربة إنسانية مشتركة توحدها معاني وقيم، تظهر لنا في المعطى الخارجي الجسمي وما يعبر عنه من أحاسيس ومشاعر [الوضعية الفينومولوجية]؛ كالابتسامة التي تعبر عن الفرح والدموع، والجموع التي ترمز إلى الهم أو الألم، واليدين الملتصقتين التي تحيل على الدعاء....
زيادة على ذلك، نجد أهمية البيذاتية Intersubjectivité كما بلورها الفيلسوف الألماني الفينومولوجي (إدموند هوسرل) في مقاله (تأملات ديكارتية)؛ أي لا يوجد "أنا" وحده في العالم، فكل ذات إنسانية تدرك تجربتها في تجربة الغير بواسطة إدراك غير مباشر. وهذا ما يدل أن الغير يوجد مع الأنا في العالم عن طريق التوحد به حدسيا، بمعنى يأخذ مكانه ويعيش تجربته بطريقة غير مباشرة، فيصبح هو أنا وأنا هو. وبموازاة ذلك يصرح : «لدي في ذاتي، وفي إطار حياتي الشعورية الخالصة المختزلة بشكل متعال تجربة عن العالم وعن الآخرين (...) وهذا طبقا للمعنى نفسه لهذه التجربة –لا بوصفها عملا لنشأ في التركيبي والخاص بي على نحو ما، بل بوصفها تجربة عن عالم غريب عني، عالم بينذاتي موجود لكل واحد منا، وموضوعاته في متناولنا». ولا يختلف عن هذا، الفيلسوف الفرنسي (موريس ميرلوبونتي) الذي يظهر بأن إغناء تجربة الذات كأنا يتم كذلك عبر الحوار أو الكلام بوصفه تعبيرا تواصليا بين ذوات أخرى.
ومن ثم، يتبين لنا من أطروحات "تجربة الإغناء" للأنا أنها ترفق مفاهيم الصراع والتهديد والسلب أو التشيئ بين الأنا والغير، لتؤكد أهمية الوجود المشترك والبنائية والحوار والتواصل...
وأخيرا ومن خلال هذا العرض، على أنه إذا كان الإتجاه الأول يعتبر أن وجود الغير يشكل تهديدا وغموضا لتجربة الذات الإنسانية كأنا... وإذا كان الموقف الثاني يراها كإغناء وتطوير لها... يمكن القول بصفة عامة أن التهديد ليس تفقيرا للأنا، بل هو إغناء لتجربة وجودها على حد تعبير الفيلسوف والسوسيولوجي الوضعي الفرنسي (أوجت كونط) في مؤلفه (مواعظ وضعية). لأنه بإمكانه أن يتخلى تدريجيا عن كثير من المواقف والأحكام والممارسات التي تمس كرامته كما تمس كرامة الجماعة البشرية كالأنانية؛ أو كما تقول المفكرة المغربية عالمة الإجتماع (فاطمة المرنيسي) في كتابها (شهرزاد ترحل إلى الغرب) يتطلب الأمر من كل ذات عملا وتفكيرا متأنيا ومغايرا يتجلى في حب البعيد والقريب، المشابه والمختلف. لكن يبقى الإشكال المطروح هنا الآن وبصيغة دائمة هو : هل فعلا يتمكن الإنسان في هذا العصر من تحقيق هذا الحب الصعب وتجاوز أنانيته ؟