مبدأ العقاب في التربية الاسلامية
ذ. حميد بن خيبش
إن تصور الاسلام للتربية باعتبارها منطلق التغيير الحضاري , واللبنة الاساس في مشروع إعداد الفرد المسلم المؤهل للنهوض باعباء الإنابة و الاستخلاف في الأرض تصور كامل ومتوازن يضمن حرية الفرد في التصرف و الفعل , مع استحضار جملة من الضوابط التي تحول دون مساس هذه الحرية بالمقاصد الشرعية التي يروم الدين الاسلامي صونها و حفظها .
ومن خصائص هذا التصور أنه منح عملية التعلم بُعدا تعبديا حين أضفى عليها المشرع طابع الإلزام " العلم فريضة على كل مسلم" , وقرن فيها بين التعلم و بين تحصيل الاجر و الثواب الأخروي " من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا الى الجنة " .
و لأن الاصل في الدين اليسر و البعد عن الغلو, فقد وردت في الشرع الاسلامي جملة من الآيات و الأحاديث التي تحث على الرفق و الحنو , وتنبذ العنف و التعنت و الشدة ( قوله تعالى " وما أرسلناك الا رحمة للعالمين " و حديث الرسول صلى الله عليه وسلم " علموا و لا تعنفوا فإن المعلم خير من المعنف" ) فأرست بذلك قاعدة تربوية جليلة دأب المربون المسلمون الاوائل على استحضارها ضمن اجتهاداتهم و مقترحاتهم التربوية كما سنبين لاحقا .
ولأن بعض النفوس لا تنقاد بالرفق و اللين , فقد حرص الشارع الحكيم على إرساء آلية للزجر تحول دون الانحراف عن الجادة , واستفحال بذرة الشر . لذا نجد القرآن الكريم و السنة النبوية متضمنين لأشكال من العقوبات سمتها التدرج و غايتها التهذيب و الاصلاح لا الردع و الانتقام , يقول شيخ الاسلام ابن تيمية " و العقوبات الشرعية كلها أدوية نافعة يصلح الله بها مرض القلوب , وهي رحمة من الله بعباده , ورأفته بهم الداخلة في قوله تعالى " وما أرسلناك الا رحمة للعالمين" , فمن ترك هذه الرحمة النافعة لرأفة يجدها بالمريض فهو الذي أعان على عذابه و هلاكه " .
لكن لا ينبغي أن يُفهم من تشريع العقاب في ميدان التربية أنه اسلوب تعليمي يتخذ من الشدة و القسوة ديدنا في التعليم و التلقين , بل هو ضرورة يُلجأ اليها عند استنفاد اساليب الترغيب و الترهيب , وتُقدر بقدرها . و لذا أجمع علماء التربية في الاسلام على مراعاة التدرج في العقاب بدءا بالنصح و الارشاد , ثم الهجر و التأنيب على انفراد , ثم التقريع على رؤوس الأشهاد , وصولا الى الضرب الذي ينبغي أن يكن معتدلا غير موجع و لامبرح , ويُتجنب فيه الوجه و الصدر و البطن , وتكون العصا رطبة لينة , و لا يُجاوز بالادب ثلاث ضربات الا بموافقة ولي الأمر. يقول ابن سحنون في رسالته الشهيرة " آداب المعلمين" ( و لابأس أن يضربهم –أي المعلم- على منافعهم , ولا يجاوز بالأدب ثلاثا إلا أن يأذن الاب في اكثر من ذلك إذا آذى أحدا , ويؤدبهم على اللعب و البطالة , ولا يجاوز بالادب عشرة , وأما على قراءة القرآن فلا يجاوز أدبه ثلاثا ) .
أما الفقيه القيرواني أبو الحسن القابسي فينهى عن الضرب ساعة الغضب , ويوجب استشارة الأب " كما ينبغي لمعلم الاطفال ان يراعي منهم حتى يخلص ادبهم لمنافعهم , ليس لمعلمهم في ذلك شفاء من غضبه , ولا شيء يريح قلبه من غيظه , فإن أصابه فإنما ضرب أولاد المسلمين لراحة نفسه وهذا ليس من العدل , فإن اكتسب الصبي جُرما من أذى و لعب و هروب من الكتاب و إدمان للبطالة فينبغي للمعلم أن يستشير اباه أو وصيه إن كان يتيما , ويعلمه إذا كان يستأهل من الادب فوق الثلاث " ( الرسالة المفصلة لأحوال المعلمين و المتعلمين ) .
و إذا كان التصور "الفقهي" للعقاب التربوي يستلهم دواعيه من الهدي النبوي , ويشترط التدرج في تقويم سلوك المتعلم من اللين الى الشدة , حتى يكون الضرب بمثابة "آخر العلاج الكي" , فإن ابن خلدون الذي أدرك بنباهة فذة تلك الصلة الوثيقة بين ازدهار صنعة التعليم وزيادة الناتج الحضاري أعلن رفضه للأساليب التربوية القائمة على الشدة و العسف , و عدها مسؤولة عن شيوع الانحراف الخلقي الذي يتسبب في خراب العمران " ومن كان مرباه بالعسف أوالقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم , حمله القهر عل الكذب و الخبث , وذلك يضيق على النفس في انبساطها , ففي القهر مدعاة للكسل , وفيه حمل على الكذب و الخبث و التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه" ( المقدمة .ص :1243)
ويبدو الموقف الخلدوني منسجما الى حد كبير مع النقلة النوعية التي عرفها الفكر التربوي الاسلامي , المتمثلة في الحد من غلبة النزعة الفقهية وذلك بادراج جملة من العلوم "الدنيوية" الكفيلة باعداد الفرد المسلم المؤهل للبناء الحضاري و تحقيق العمران .
إن استعراض الآراء التربوية لابن خلدون و المبثوثة في مقدمته الشهيرة يُبين العقاب كتصرف تربوي قد جاوز حد الاعتدال وغدا اسلوبا تعليميا يُداري من خلاله "المربون" جهلهم بفنون وقواعد صنعة التعليم كما حددها رائد الاجتماع البشري !
من خلال ما ذُكر يتضح الخلط الشنيع لدى انصار التربية "الحديثة" بين التصور الاسلامي للعقاب التربوي , وبين الأسلوب التعليمي السائد في مؤسسات التربية التقليدية " الكتاتيب تحديدا" , كما يبدو التحامل واضحا على المنهج التربوي الاسلامي الذي هيأ للأمة اسباب النهوض بتاسيسه للمنهج العلمي التجريبي الذي يقوم عليه التقدم المعاصر كله .
هذا الانحراف في الفهم هو الذي قاد الفقيه و المربي المعاصر الشيخ يوسف القرضاوي إلى إعادة النظر في التبرير الديني لاستخدام الضرب في التعليم ’ حين أعلن في كتابه " الرسول و العلم ص.120 " ( و الواقع أن الضرب في الأصل ينبغي أن يُمنع لأنه ينافي الرفق الذي تحدثنا عنه, وقدوتنا في ذلك معلمنا الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقد روى عنه خادمه أنه صلى الله عليه وسلم ما ضرب بيده شيئا قط , لا امرأة و لاخادما و لا دابة , ولم يشرع الاسلام ضرب الصغار إلا في موضع واحد جاء به في الحديث في تعويد الابناء الصلاة قبل البلوغ حتى يشبوا على ادائها ورعايتها " .
وقد خلصت الاتجاهات التربوية و النفسية الحديثة الى تأكيد موقف الاسلام في اعتبار العقاب أقل الاساليب فعالية في التعليم , إلا أن منها من بالغ في النفور من العقوبة , واعتبرها سمة حيوانية لا تليق بالوظيفة الانسانية للتربية ! . فكان الجيل الذي أريد له ان يتربى وفق هذا التصور جيلا مفككا , ومتميعا , ومنحلا .
ومنها من دعا إلى الحفاظ على قدر من الحزم حين لا تفلح وسائل الترغيب , وقيد العقوبة بشروط مستلهمة من التصور الاسلامي " معايير عالم النفس دانييل لومبير Danniel lambert".
إن العقاب في الفكر التربوي الاسلامي عملية تقويمية للطباع و الاخلاق و السلوك , تروم تحقيق تعامل نموذجي للفرد في علاقته بخالقه و بالكون و الانسان . لذا فإن استحضار البعد التربوي لهذا المبدأ في العملية التعليمية رهين بسلامة العلاقة التربوية بين المدرس و التلميذ ..سلامة تقتضي التخلص من جملة الاكراهات التي تتحمل مسؤوليتها الأنظمة التربوية ببلداننا , وفي مقدمتها الحرص على استيراد النموذج الغربي بكل أدواته وتوابعه الحضارية التي لم تخلف في بلدانها الاصلية غير الشك و الارتياب , والفوضى و الاغتراب , وتردي القيم !