دور البناء النفسي للصحابة في إنجاح تطبيق الشريعة في المدينة
عندما انتقل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مكة إلى المدينة واجهته مشاكل متعددة، ومن أوّل المشاكل التي واجهته التفاوت الاقتصادي بين فئتي مجتمع المدينة: المهاجرين والأنصار، ووجود عادات متأصلة مثل شرب الخمر، وصعوبة إحلال قيم جديدة مرتبطة بالأمة محل قيم قديمة مرتبطة بالقبيلة، فكيف حلّ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه المشاكل؟ وكيف تصرف الصحابي إزاء أوامر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟ وما البناء النفسي الذي حكم تصرفاته في تلك الآونة؟
التفاوت الاقتصادي بين المهاجرين والأنصار:
عندما هاجر الصحابة من مكة إلى المدينة تركوا أموالهم فيها، فأصبحت المدينة تحتوي فئتين: المهاجرين لا يملكون شيئاً، والأنصار يملكون كل شيء، فكيف تصرّف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إزاء هذا التفاوت الاقتصادي؟ آخى بين فئتي المجتمع، فاتخذ كل مهاجر أخاً أنصارياً له، وتقاسما بينهما ما يملكه الثاني. فقد نقلت الروايات أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ آخى بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع فقال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً فأقسم مالي إلى نصفين، ولي امرأتان فانظرْ أعجبهما إليك، فسمّها لي أطلقها، فإذا انقضت عدّتها فتزوجها، قال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك. أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلاّ ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغدو. [صحيح البخاري، باب كيف آخى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أصحابه].
لا شك أن استجابة الصحابة العميقة لنداء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي جعلتهم يتنازلون عن نصف أموالهم -وعن زوجاتهم في بعض الحالات- منبثقة من امتلاء واغتناء نفسيين يمكن أن نستشف معالمهما في العناصر التالية:
1- تعظيم الصحابة لأمر الله والرسول في الإنفاق والخضوع له تعالى، وليس الخضوع لشهوة حب المال واكتنازه والبخل به.
2- رجاء الصحابة الجنة في حال اقتسام الأموال مع إخوانهم، وخوفهم النار في حال البخل وعدم التضحية بالمال.
3- حب الصحابة لله تعالى ولرسوله أكثر من حب المال.
4- ثقة الصحابة في قيادة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبوعد الله في إخلاف المال المنفق.
تحريم الخمر:
كان شرب الخمر عادة متأصلة في المجتمع الجاهلي، وتدرج الإسلام في تحريمها، فأنزل في البداية قوله تعالى: (وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً). [النحل: 67]. ثم بيّن الله تعالى أن إثم الخمر أكثر من منفعته فقال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا). [البقرة: 219]. ثم نهى الله المؤمنين أن يقربوا الصلاة وهم سكارى فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ) [النساء: 43]. ثم حرّم الخمر فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ؟). [المائدة:90-91].
فماذا فعل الصحابة عندما نزل أمر الله تعالى بتحريم الخمر؟ نقلت إحدى الروايات فذكرت أن ثابت بن أنس قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة قال: فنزل في تحريم الخمر، قال: فأمر منادياً فنادى فقال أبو طلحة: اخرج فانظر ما هذا، فخرجت فقلت: هذا منادٍ ينادي ألا إن الخمر قد حرّمت. فقال لي: اذهب فأهرقها، فجرت في سكك المدينة، قال: وكانت خمرهم يومئذ الفضيخ. [سنن الدارمي، كتاب الأشربة، الباب الثاني].
إذن كانت استجابة الصحابة لتحريم الخمر استجابة فورية وشاملة، وقد جاءت هذه الاستجابة نتيجة امتلاء واغتناء نفسيين، ويمكن أن نبرز معالم هذا الامتلاء والاغتناء في العناصر التالية:
1- تعظيم الصحابة أمر الله في تحريم الخمر وتنفيذه، وعدم خضوعهم لشهوة شربها.
2- حب الصحابة لله تعالى، وتقديمهم حبه تعالى على حب الخمر.
3- رجاء الصحابة الفوز بالجنة لتحريمهم الخمر، وخوفهم من عقاب الله تعالى في حال العصيان.
4- ثقة الصحابة بالمنهج الإسلامي الذي حرّم الخمر، ويقينهم أن تحريمها يعود عليهم بالخير كأفراد وجماعة.
ليس من شك في أن بناء الصحابة النفسي الممتلئ بالله تعظيماً وخضوعاً وحباً وخوفاً ورجاء كان عاملاً رئيساً وراء نجاح الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تحريم الخمر، في حين أن افتقاد أمريكا ذلك الامتلاء النفسي كان عاملاً رئيساً وراء فشلها في تحريم الخمر في مطلع القرن العشرين.
الأمر بالحجاب:
نزل الأمر الإلهي بالحجاب فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً). [الأحزاب: 59]. وأنزل - تعالى - الأمر بالضرب على الجيوب فقال: (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ). [النور: 31].
فكيف كانت استجابة المجتمع الإسلامي لهذا الأمر الإلهي؟
يوضح ذلك الحديث الذي رواه البخاري والذي قالت عائشة رضي الله عنها فيه: "رحم الله نساء المهاجرات الأُوَل، لما نزل (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) شققن أزرهنّ فاختمرن بها".
إن استجابة الصحابيات لأمر الله بالاختمار والحجاب كانت سريعة وشاملة؛ فقد شقّت الصحابيات بعض ثيابهن من أجل تحقيق الأمر الإلهي في الاختمار وستر الجيوب، ولم ينتظرن حتى يُهيّئن للأمر عدته الخاصة، ويدل هذا على اغتناء الصحابيات النفسي، ويمكن أن نستشف معالم هذا الاغتناء في الأمور التالية:
1- تعظيم الصحابيات لأمر الله بالحجاب، والخضوع لذلك الأمر بشق الثياب والاختمار بها.
2- رجاء الصحابيات الجنة بتنفيذ أمر الله بالحجاب، وخوف النار عند عدم الالتزام به.
3- ثقة الصحابيات بالمنهج الإسلامي ويقينهن بأن الحجاب خير لهن ولأمتهن.
والآن على ضوء الوقائع الثلاث السابقة التي تجلّت فيها استجابة الصحابة العميقة والشاملة لأوامر الشريعة، والتي دلّت على اغتنائهم النفسي الذي أدى إلى نجاح الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بناء الأمة وفي تطبيق الشريعة في المدينة، والسؤال الذي يمكن أن يرد في هذا المقام: من أين جاء هذا الاغتناء النفسي؟ وما الذي ولّده؟
ولّدته العقيدة التي طرحها القرآن الكريم في مكة، والتي تقوم على الإيمان بالله واليوم الآخر. فقد بيّن القرآن الكريم والحديث الشريف أن الله - تعالى - خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وأنه خلق آدم من تراب، وأنه خلق الملائكة من نور، وأنه يعلم السرّ وأخفى، وأنه لا تأخذه سنة ولا نوم، وأنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة، وأن جميع المخلوقات تخضع لأمره تعالى، وأنه قيّوم عليها.. الخ.
عندما يؤمن المسلم بالله - تعالى - بالصورة التي طرحها القرآن الكريم وبيّنها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا شك أنه سيعظّم الله تعالى، ويتجه إليه بالخضوع وحده تعالى.
وعندما يؤمن المسلم بأن الله - تعالى - خلق الأرض ذلولاً من أجل الناس، وأنه سخّر لهم الشمس والقمر، وأنه فصّل الليل والنهار من أجل أن يعملوا في النهار ويسكنوا في الليل، وأنه سخّر لهم الأنعام والدوّاب من أجل أن يمتطوها ويأكلوا لحمها، وأنه سخّر الرياح وأنزل الماء من السماء لينبت به نبات الأرض الذي يستمتعون بمنظره وبالطعام منه، عندما يؤمن بكل ذلك يتجه بالحب إلى الله تعالى.
وعندما يؤمن المسلم بأن هناك بعثاً وحساباً وأن هناك جنة وناراً: الجنة فيها نعيم لا يمكن أن يُقارن بأي نعيم في الدنيا، والنار وقودها الناس والحجارة، ليس من شك بأنه عندما يؤمن بهذا سيتجه إلى الإنفاق من مال الله الذي آتاه إياه ليقترب من الجنة، ويبتعد عن النار، وسيتجه إلى الالتزام بأوامر الله ونواهيه التي تكسبه الأجر الذي يزيد من حسناته، ويقلّل من سيئاته لكي يفوز بالجنة وينجو من النار.
هذه هي بعض معالم العقيدة التي بناها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صحابته والتي كانت عاملاً رئيساً في توليد اغتنائهم النفسي الذي أدّى إلى إنجاح تطبيقات الشريعة في المدينة، ثم جاءت أركان الإسلام وأبرزها الصلاة والصوم والحج والزكاة والتي تبلورت تشريعاتها في المدينة لتستمر في إغناء كيان الصحابة النفسي، دافعة بهم إلى استشراف آيات الوحي الجديدة وإنفاذ أحكامها الشرعية، منتهية بهم إلى ترسيخ كيان المجتمع الإسلامي بقيمه الوليدة وصورته الفاعلة الحيّة.
فالصلاة التي يمتثل فيها المسلم أمر ربّه بالتطهر والقيام والركوع والسجود في أوقات محددة من الليل والنهار تبني تعظيم الله، والصوم الذي يمتنع فيها المسلم عن شهوة النساء والطعام والشراب في وقت محدد لا شك أنه يبني الخوف من عقاب الله تعالى والرجاء في ثوابه، والزكاة التي يُخرج فيها المسلم قسطاً من ماله في الوجوه التي أوجبها الشرع تبني حب الله تعالى؛ لأنه يتخلى عن شيء يحبه وهو المال من أجل محبوب أعظم، وهو الله تعالى. والحج الذي يقصد فيه المسلم بيت الله الحرام، متحملاً المشاق، ومنفقاً الأموال يبني الخضوع لله تعالى.
الخلاصة: إن اغتناء الصحابة النفسي الذي استمد مادته من العقيدة الإسلامية هو الذي ساهم في إنجاح تطبيق التشريعات الإلهية في المدينة، ثم جاءت أركان الإسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج لتعطي اغتناءهم النفسي مدداً مستمراً، ساعدهم على الاستمرار في الالتزام بتنفيذ أوامر الشريعة، وأداء واجباتهم الدينية في المراحل اللاحقة.