النبي الأمي وآفاق البناء النفسي والاجتماعي
نشأت حركة التغيير والبناء التي قادها النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في البداية تغييرا للحياة العامة في مكة، وبالتحديد على الحياة العقدية (عبادة الأوثان) والحياة الاجتماعية (مظاهر التعسف والاضطهاد ضد الطبقات الضعيفة المجتمع ووأد البنات)، وممارسات الجاهلية اللاأخلاقية التي كانت سائدة في ذلك العهد في الجزيرة العربية.
ولما كان التمسك بتلك الممارسات والتقاليد يعد سمة رئيسية من سمات حياة المجتمع القبلي، فإن إحساس النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي عاش أربعين عاماً من حياته في كنف أهله ومجتمعه، وهو الذي ترك بصماته واضحة على الحياة الاجتماعية والأخلاقية والتعاملات التجارية (ممارسته التجارة منذ بداية حياته حتى صدوعه بالنبوة)، كان لابدّ وأن يمتدّ نهجه الحياتي والقيمي - الذي تميز به - وترسيخه إلى ما بعد سن الأربعين (نزول الوحي والنبوة)، ذلك التكوين القيمي ومعايير التعامل مع الناس التي تمسك بها وباتت علامة واضحة يتصف بها رجل الدعوة الواضحة المعالم في السلوك والتعامل والتأثير على الناس، بما كان يتصف به من أمانة وصدق وخلق وإخلاص، وحب أبناء جلدته ودعوته الصادقة إلى خير الإنسانية.
لقد كان التمسك الشديد الذي أبداه النبي الكريم (صلوات ربي وسلامه عليه) في حبه لمجتمعه وأهله في مكة تعبيراً عن الشعور العميق الذي كان يحسه تجاههم في تغيير هذا المجتمع وضرورة تعديل كل قيمه ومعاييره رغم أن الأغلبية المسيطرة على زمام الأمور تعد هي الأقوى، وهي المتحكمة والمتسلطة على الحياة السياسية والاجتماعية آنذاك.. لذا كانت كل الجهود والمعاناة والمشقة التي واجهها الرسول(صلى الله عليه وسلم) في مجتمعه من سادة قريش وكبارها لا تعني بحال أن النبي(صلى الله عليه وسلم) لا يحظى بشخصية أو تقدير أو احترام، بل لأن سادة قريش طغاة ويعتبرون أنفسهم سادة الجزيرة العربية كلها وتجارها، ولهم صلات تمتد إلى أبعد مكان آنذاك هو الشام في أطراف الجزيرة الشمالية، وإلى اليمن في أطرافها الجنوبية، ولما كان النبي(صلى الله عليه وسلم) طيلة حياته الشريفة لم يمارس أساليب تجار قريش مثل الغش والتحايل، واتخاذ الناس عبيداً، والتعامل على أساس العبودية والتمايز.. فقد اتخذوا منه موقفاً عدائياً لإحساسهم بأنه سيسلبهم كل مراكزهم الاجتماعية والتجارية، وعلى ضوء ذلك نشأ الصراع بين مجموعات تسود لديها القوة والجاه والمال وأخرى داعية إلى خلاص الإنسانية من الاستعباد والذل، وإعلان المساواة والعدل في كل مناحي الحياة وجوانبها، فالنبي (صلى الله عليه وسلم) أسقط الحواجز النفسية السائدة آنذاك فجعل الكل أخوة، بينما لم يكن العربي قبل ذلك أخاًالا للعربي، فالرسول (صلى الله عليه وسلم) جعل أبا ذر العربي وبلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي أخوة، كما جعل صفية (اليهودية الأصل) ومارية (المسيحية الأصل) وسودة (القرشية) أخوات .
وتأسيساً على ذلك فإن دعوته ولدت بانعتاق الإنسانية وتستمر، ولدت ومعها مقومات ثبوتها ووجودها المتمثل بمنهج واضح وقويم وهو كتاب الله الكريم.
النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) قبل النبوّة:
منذ اعتماد النبي (صلى الله عليه وسلم) مبدأ التعامل مع الآخرين في بداية حياته في الميدان الاجتماعي والعمل التجاري، لوحظ سلوكه المختلف تماماً عما كان سائداً في التعاملات الاجتماعية والتجارية القائمة على الغش والرياء والمخادعة وجني الأموال بكل ما يمكن إتاحته من أساليب بما فيها الربا وغير ذلك.. هذا من الناحية التجارية، أما من الناحية السياسية والدينية، فهي مبنية أساساً على امتداداتها في الناحية التجارية، حيث كان الهدف هو تحقيق المكاسب السياسية من القبائل، باعتبار مكة المركز السياسي والديني الذي يتوسط الجزيرة العربية فضلاً عن جني الأموال الطائلة من وجودها منذ القدم واستغلالها استغلالاً دينياً - تجارياً، لا سيما وأن القبائل تحج إليها من كل أنحاء الجزيرة وأطرافها.
وقد بلغ النبي العظيم(صلى الله عليه وسلم) العشرين من عمره وبدأ يسهم في تجارب قريش السياسية والعسكرية والدينية، حيثما رأى في هذه التجارب حقاً وعدلاً، رافضاً من جهة أخرى، كل تصوراتها الخاطئة ومعتقداتها الوثنية وأخلاقياتها المتهافتة الساقطة. اشترك وهو في العشرين من عمره في حرب الفجار والتي نشبت بين كنانة وقريش من جهة وبين قيس عيلان من جهة أخرى .
ونخلص من ذلك إلى جملة معانٍ تضمنتها حياة النبي المصطفى(صلى الله عليه وسلم) قبل النبوة، ولا زالت مستمرة بعد النبوة منها:
1- التركيز على إقامة دعائم لعلاقات حقيقية مع أبناء قومه قائمة على الصدق في التعامل، انعكست بعد ذلك على مختلف حياته بعد النبوة.
2- السمو النفسي الذي يتمتع به النبي (صلى الله عليه وسلم) في إقامة علاقات ثابتة وذات عظيمة.
3- النشأة والتربية في أسرة كريمة رسخت تمازج النفس وقوتها بالإيمان.
وهكذا تبدو حياة رسولنا الكريم قبل مبعثه؛ سلسلة مترابطة الحلقات، منطقية التعاقب من التجارب والخبرات في شتى الأصعدة: عائلية ونفسية واقتصادية وحركية وحربية وسياسية ودينية واجتماعية.. وقد شملت أيضاً بعض الأبعاد المهمة، منها:
البعد الأخلاقي - البعد الروحي - البعد الاجتماعي.
أما البعد الأخلاقي في حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) فيتمثل واضحاً نقياً في عزوفه التام عن كل ممارسات الجاهلية اللاأخلاقية التي كانت تعج بها الحياة العربية.
أما البعد الروحي - الفكري، وهو أشدّ الأبعاد ثقلاً وخطراً في حياة الإنسان، فبالإضافة إلى الانشقاق الأخلاقي عن الوضع المكي، تمتع بالقدرة على الرفض والتمرّد، فقد جاءت عزلته وانقطاعه إمتداداً نفسياً باتجاه آخر، لكنه متمم، وبدونه لا يمكن لإنسان ما أن يلعب دوره الحاسم الكبير.. إنه إمداد باتجاه الاندماج والاتصال، بمواجهة ترفض الجاهلية وقياداتها وأعرافها وسلطانها.. إنه اندماج بالكون.. بالعالم الجديد الذي جاء لكي ينقل البشرية إليه.
إذن كان النبي(صلى الله عليه وسلم) يستكمل بناءه النفسي واستعداداته التجريبية وخبراته التي بنتها السنون الطويلة والأعمال التي غطت كل المساحات، كان يضع اللمسة الأخيرة الحاسمة للإنسان الذي سيغدو نبياً عما قريب .
أما البعد الاجتماعي؛ فقد كان المجتمع العربي في عصر النبي (صلى الله عليه وسلم) مجتمعاً قبلياً لا يعرف الوحدة والتماسك والنظام ولم يعتد الانقياد لسلطة موحدة أو الالتزام بشعائر وأخلاقيات وعلاقات ثابتة دائمة، وقد علمته تقاليد وممارسات قرون طويلة من التسيب والانفلات، التمرد على أية محاولة للضبط والتنظيم .
الرسالة المحمدية وتوحيد القيم:
إن ما شهده العصر الجاهلي في تاريخ الأمة العربية يرجع بمعظمه إلى النشأة العامة التي درج عليها الإنسان الجاهلي، والمبادئ الخلقية والاجتماعية التي اعتنقها، وإلى مسار الأحداث التي رافقته في حله وترحاله، سلمه وحربه، سكينته واضطرابه، حياته أو موته . فالقيم التي كانت تسود المجتمع قائمة على شرب الخمور واستمراء الزنى، ولعب الميسر والإيغال في الربا، والتهافت على مال اليتيم ووأد البنات، واستعباد الناس وتفشي الطبقية، وحصر الحرية في المجموعة المتنفذة في إدارة دفة القبيلة ذات السيادة المالية والتجارية، هذه القيم سادت معظم المجتمعات - العربية منها والأعجمية - آنذاك، فالقبائل الممتدة حتى أطراف الجزيرة شمالاً تؤمن بهذه القيم وتمارسها، وقد قامت عليها حضارات عريقة أنشأت وجودها على نفس الامتداد القيمي.. فكانت الحروب عندما تنشب وتحقق القبائل الانتصارات على بعضها، توقع أعلى درجة من البلاء في الجانب الخاسر؛ تنهب أمواله وتسبي نساءه وتأتي بهن (خادمات) للسيد المنتصر، وهكذا يتحول السيد في قومه إلى عبد لدى المنتصر.. فكانت لغة السلب والنهب الفردي والجماعي هي السائدة، واستجلاب الغلمان والنساء (الجواري) أمراً مألوفاً.
هذا السلوك العام السائد في بيئة اختلّ فيها التوازن الاجتماعي والاقتصادي، أدى إلى التمسك ببعض وسائل العيش واستمرار بقائها دون التفكير بالتنازل أو التراجع عنها، لذا فنتيجة ديمومة هكذا حال أضحى من الصعب التسليم بنقيضه أو قبول بديله، ما دامت الحروب والتجارة تحقق الأموال والجاه والمكانة الاجتماعية.. وإن التنازل عنها وإحداث توازن آخر، وإقامة البديل في مجتمع طغت عليه مكاسب التمايز الطبقي والاستئثار بالمال أو السلطة.. فلابد وأن تكون ردة الفعل المتوقعة إزاء أي تغيير قوية، وشديدة، ولا يمكن وصف قوتها وشدتها لا سيما أن من يصنع التغيير هو شخص اتصف بالبساطة والنبل والأمانة في مجتمع ابتعد عن هذه الصفات، وهو مجتمع مكة الغني بالمال والجاه والثروة، وعرف التجارة والسيادة على القبائل الأخرى، وامتد نفوذه إلى شمال الجزيرة العربية وجنوبها.. فهل من الممكن التسليم ببساطة لهذا الرجل الذي طلب قلب الأمور رأساً على عقب.. فبالتأكيد سيوصف من قبلهم أنه حاسد، باحث عن الثروة والمال والسلطة، ولكنه كان العكس تماماً.
إن العالم الذي بعث فيه محمد (صلى الله عليه وسلم) عالم في أمسّ الحاجة إلى منقذ، لذا فإن القرآن الكريم تحدث فيما بعد عن أبعاد الأزمة البشرية، وعليه فقد ظهر أن مهمة أي دين سماوي شامل هي أن ينقل البشرية من وضع معين إلى وضع أرقى منه وفقاً للمهمة التي أنيطت بالإنسان عندما استخلفه الله على الأرض. لذا فإن محمداً (صلى الله عليه وسلم) هو الرجل الذي قدر له أن يعيد صياغة الحياة بما ينسجم ونواميس الكون .
مهمة البناء الاجتماعي والنفسي الجديد للإنسان:
يقول الله سبحانه وتعالى مكلفاً نبيه (صلى الله عليه وسلم) بأفضل مهمة إنسانية للبناء والتكوين النفسي والاجتماعي للبشر جمعاء: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً * وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً * وبشّر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً) (الأحزاب: 45-47).
فالنبي (صلى الله عليه وسلم) استطاع أن يجمع من حوله خيرة العرب، وخيرة القبائل التي لا يدانيها أي شك في قدرتها على نشر الدعوة، فكان (صلى الله عليه وسلم) ينهج النهج البنّاء لتنمية أفراد المجتمع من خلال النص القرآني في بداية الدعوة الإسلامية حيث يلاحظ أن أول من آمن بدعوته وأسلم هم الرجال ممن أصغر منه سناً أو ممن لا يكبره في السن كثيراً، أما الشيوخ المسنون فلم يستجيبوا لدعوته استكباراً وأنفةً، فللسن عند العرب منزله، والعرف أعمق جذوراً في نفوس المسنين، وكان من العار على المسن تغيير ما هو عليه وما ورثه عن آبائه وأجداده ، فكان الأوائل ممن آمنوا بدعوته واقتنعوا بها قلائل، ولا يوجد مجتمع يستطيع أن ينمو ويؤمن بأي جديد مرة واحدة، وعندما يوجد شيء مؤثر ومفيد فمن المرغوب فيه أن يستوعبه وأن يأخذ به سواء كان اتجاهاً عقلياً أو شيئاً مخترعاً، فالتقليد البنّاء من ملامح الحياة الاجتماعية وهو يتميز بالآتي:
1- أن يقوم على اختيار عقلي واع.
2- أن يضع في الاعتبار المشكلات المتعلقة به.
3- إن عدم الأخذ به سوف يكون فيه حرمان المجتمع.
4- أن يدخل في نسق القيم ويغيرها .
5- كل جديد سوف يجد من يعترضه وخاصة فيما يتعلق بالقيم السائدة.
إذن نستطيع القول إن الجديد الذي صاغ النبي (صلى الله عليه وسلم) أفقه النفسي والاجتماعي تمثل بالإصلاح الواقعي للمجتمع من خلال قوة شخصيته ومساهمته الكبرى في بناء الكعبة المشرفة، فالكعبة قد تعرضت لسيل جارف بعد حريق أصابها مما سبب أضراراً فادحة ببنائها، فرأت قريش أن تعيد بناءها، وقد اشتركت بجميع قبائلها بالبناء، فلما أرادوا وضع الحجر الأسود في موضعه دبّ النزاع في قريش حول من يضطلع بشرف وضع الحجر الأسود في موضعه المعلوم، وودّت كل طائفة أن تنال ذلك الشرف دون سواها، وتأزم الموقف، وقد اقترح عليهم (أبو أمية بن المغيرة) وهو أكبرهم سناً، أن يحكموا بينهم أول من يدخل عليهم من باب بني شيبة، فاستجابوا لمشورته، وانتظروا طلعة المنقذ، وطلع عليهم المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، فلما بصروا به قالوا: هذا الأمين رضينا به، هذا محمد (صلى الله عليه وسلم) ، فكان النبي المصطفى (صلى الله عليه وسلم) رمزاً موحداً للقبائل في قيادتها، ورمزاً موحداً لجمع شمل الأديان والمذاهب نحو وحدة الخالق المطلق، فهو حقق نتيجتين في آن واحد:
الأولى: جمع شمل القبائل نحو البناء النفسي والاجتماعي بتوحيد كلمتها.
والثانية: يعد من أعظم الموحدين لفكرة الخالق لدى الفلسفات والأديان عبر التاريخ الإنساني.
لقد استطاع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أن يؤثر في نفوس الآخرين المقربين منه وحتى الأعداء، إذ استطاع أن يجمع تأثير سلوك الفرد وسلوك الجماعة بمناخات اجتماعية، ودراسة رد الفعل الحادث عند الانتقال من هذه المناخات إلى مناخ مغاير .
لذا فقد عُد النبي محمد(صلى الله عليه وسلم) قائداً ليس على المستوى الاجتماعي فحسب، بقدر ما هو قائدٌ نفسي محنك، حينما استطاع أن يزرع بذور الشخصية الجديدة المنفصلة عن واقعها تماماً، ببناء إنسان مغاير لقيم مجتمع تنبذه وترفضه رفضاً تاماً، فهو جاء بالجديد الكامل المنهج لمجتمع غلبت عليه روح العبث واللامبالاة، وسيطر المجون والفساد والقتل والنهب والربا والابتزاز والفساد القيمي على أفراده، وهو سلوك مقبول فردياً وجمعياً لدى تلك القبائل والأقوام وعندما يكون التغيير جارفاً، فبالتأكيد سوف يجد الرّد والقمع ممن ألفوا كل تلك الأفعال والسلوكيات التي اعتبرت صالحة لمجريات التعامل آنذاك.. فكان الرسول(صلى الله عليه وسلم) ثورة من القيم والتعاملات، ثورة جذرية بكل معنى الكلمة؛ لا يهادن ولا يقبل الانصياع لقيم المجتمع القليل منها أو الكثير، فهو جاء بالجديد المخالف لكل ما هو قديم.
إن النبي(صلى الله عليه وسلم) هو محور الجماعة التي آمنت به في فجر الدعوة، وهو عضو فرد منها، وإنه هو بؤرة سلوك أعضاء الجماعة وهو المركز الذي تدور من حوله الجماعة وله أكبر تأثير نفسي فيها، وهذا لا يعني أن باقي الأعضاء (الأتباع) ليس لهم أهمية. إن العلاقات المتبادلة بين النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) والآخرين تتضح في قدرته على الاتصال والبناء، تحددت من خلال التفاعل الاجتماعي وتحديد معايير جديدة وضعتها الدعوة الإسلامية منذ بداياتها، ومعرفة الأدواء ومجريات الأمور، فهي ثورة اجتماعية في التغيير ونفسية في التكوين الفردي، فلم تكن عشوائية أو غير فعالة؛ لذا فإن النبي(صلى الله عليه وسلم) استطاع أن يغير اتجاهات المجتمع المكي بكامله من حيث بنائه الاجتماعي أو سلوك أفراده بدعوته من خلال:
1- الاتجاه نحو حافز جديد.
2- استبدال طريقة من طرائق الحياة بشكل مباشر أو غير مباشر .
مما تقدم يمكن القول إن أفق البناء النفسي اتضحت معالمه منذ فجر الدعوة في مكة من خلال تأكيدها على أهمية التغيير في كافة مجالات الحياة حينما وجد أفراد وجماعات بينها تفاعل اجتماعي، وبينها تقارب نفسي أو أسلوب للحياة والتربية.
الإرادة.. العامل النفسي في انتصار الرسول (صلى الله عليه وسلم):
تُعرّف الإرادة بأنها العوامل الذاتية الداخلية لدى الفرد، والتي يحركها الدافع نحو تحقيق الإنجازات غير الاعتيادية في الحياة. ويرى فاخر عاقل بأن قوة الإرادة يلجأ إليها الفرد حين كان التقرير صعباً، أو حين ثابر الإنسان على القيام بالجهد بالرغم من وجود ما يلهي، وإنه لا يلجأ إليه حين يكون التقرير سهلاً أو تكون المثابرة معدومة .. لذا فإن عامل الإرادة النفسي هو الدافع المهم في تحقيق الدعوة الإسلامية بالانتشار رغم قساوة مجتمع قريش المكي الذي كان يلهث وراء ملذاته وتجارته وعلاقاته وصلاته الاجتماعية مع كل المدن وفجأة حدث الانفجار ضد قيم الجاهلية، فقد أنشأ الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) أمة متينة البنيان بالإيمان والحكمة وبُعد النظر، وهو لم يقم سلطاناً دنيوياً ولا فرض سلطته على أحد، ولم تكن لديه وسيلة للثواب أو العقاب، فهو (صلى الله عليه وسلم) لم تكن لديه أموال ينفق منها، ولا شرطة تأخذ الناس بالنظام، ولا سجون يضع فيها من استحقت عليه عقوبة، بل لم يكن في المدينة في أيامه جيش له قادة ومراتب ورواتب، لأن الذي فعله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو أنه جعل الأمة جيشاً، فهو أمة جيش تحارب (في بداية الدعوة) في سبيل الله وهو يقودها بنفسه، ويكل قيادتها لمن يختاره من أهل الكفاءة. الأمة آمنت وعملت وجاهدت وتركت أمرها لله سبحانه وتعالى وأخلصت الإيمان بدينه .
فقوة الإرادة هي العامل النفسي والاجتماعي المؤثر في توطيد دولة الإسلام بعد مضي (23 سنة) على إنشائها، ويعبر علماء النفس عن فعل الإرادة بأنه فعل تأملي، أي إن الفاعل المريد يشعر بما يفعل، ويعي ما يقول، ويدرك في الوقت نفسه غاية فعله، ويحكم حكماً عقلياً بإمكان تحقيق الوسائل المؤدية إلى هذه الغاية؛ وهو أيضاً (أي الفعل الإرادي) ليس خارجاً عن نطاق قدرتنا ولا تابعاً لنزعة من النزعات الطبيعية المسيطرة علينا، كالأفعال الاندفاعية أو الغريزية، إنما نتحمل تبعة القيام به، وأنه يكشف عن خصالنا وسجايانا، إذاً فالإرادة قوة مستقلة وهي كغيرها من الظواهر النفسية مقيدة بكثير من الأسباب والعوامل وهي ظاهرة ليست بسيطة، وإنما معقدة، ويقول عالم النفس وليم جيمس: (الإرادة لا تسير إلاّ في طريق المقاومة الشديدة، ففي الإرادة قهر الشهوات وكبح جماح النفس) .
وما حققه النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بقوة الإرادة إنما هو بناء نفسي اجتماعي ظل قائماً حتى يومنا هذا.
ويقول بيير جانيه في هذا الصدد: (إن الفعل الإرادي فعل جديد، وهو يجمع العناصر النفسية الموافقة للظروف الجديدة، ويركبها تركيباً لا عهد لها من قبل، فالإرادة تغير الأوضاع القديمة، وتبدل الحركات الآلية السابقة .
الإسلام المعاصر بين استمرار القيم وأزمة الهوية:
إن النبي(صلى الله عليه وسلم) استطاع أن يهدم مجتمعاً وثنياً بكامله، وأزال كل قيمه، ومعاني وجوده، بعد مضي 23 سنة من دعوته، عاش منها ثلاث عشرة سنة في مكة، وعمل خلالها على هداية قوم قرروا منذ البداية ألا يدخلوا الإسلام، لأنهم كانوا أبعد ما يكونون عن إدراك شيء يسمى رسالة إلهية أو ديانة سماوية، فكانت خطوط تفكيرهم قبلية وكانت الدنيا عندهم هي مراكزهم الاجتماعية ومكاسبهم المالية ، وعاش حياته الباقية في المدينة، وقد استطاع أن يقنع هؤلاء القوم بكل ما أوتي من قوة تأثير في ظروف الحرب والسلام حيث كان(صلى الله عليه وسلم) عارفاً بخالقه، ومن خلال معرفته هذه وإيمانه الكامل استطاع أن يقف أمام كل الانحرافات، ويدفع بسفينة البشرية إلى شاطئ النجاة .
إن الإسلام رفع قدر الإنسان إلى مستوى عالٍ من خلال نهجه، والله يعلم أنه من الممكن أن يرتفع الإنسان إلى مستوى فهم القرآن الكريم لما بعث الرسول(صلى الله عليه وسلم)، ولما جعله هدى للناس، ولما أرسل رسوله للناس كافة، فكل إنسان بلغ مبلغ الوعي والإدراك هو مهيأ نفسياً وذهنياً لمعرفة آيات القرآن والتدبر فيها واستيعاب معانيها ، ويؤمن بالقيم التي جاء بها القرآن ونشرها الدين الإسلامي، لا سيما أن القيم هي عبارة عن تنظيمات لأحكام عقلية انفعالية معممة نحو الأشخاص والأشياء والمعاني وأوجه النشاط، وهي أيضاً تعبير عن دوافع الإنسان وتمثل الأشياء التي توجه رغباتنا واتجاهاتنا نحوها ومن أمثلة القيم العامة: القوة والثروة والعلم والإيمان.. الخ . وقد أرسى النبي الكريم(صلى الله عليه وسلم) في مجتمعه قيماً خالدة ومنهجاً واضحاً وسنة حسنة، وسنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) هي كل ما أوثر عنه من قول أو فعل أو تقرير، فإن الدروس التي نستفيدها من دراسة هذه المرحلة من حياة الرسول(صلى الله عليه وسلم) كثيرة ظلت باقية حتى حياتنا المعاصرة من خلال:
- الثبات على الإيمان.
- الصمود على الحق.
- الصبر على الناس.
- طول البال.
- ضبط النفس عند المحنة الطويلة.
- صون اللسان والاستعانة بالعقل .
وإزاء ذلك فإن استمرار القيم وماورد في الكتاب والسنة النبوية، من عناوين واضحة في نهج الحياة وأحكام الدين والدنيا من خلال القرآن الكريم وأقوالهم، بيّن وضوح الرؤية وانحسار الضباب عن العقيدة الإسلامية، فضلاً عما أورده الصحابة من المهاجرين والأنصار؛ إذ نرى أن منهم الصلحاء والأخيار ممن ساهموا في بناء الإسلام وإقامة دعائمه، ووهبوا أرواحهم وأموالهم، وقد أثنى عليهم الله تعالى في غير آية من كتابه المجيد.
وقال فيهم: (الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون) (الحجرات: 15).
وقال تعالى: (رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم) (التوبة: 100).
ولكن التساؤل المهم الذي نحاول صياغة مفاهيمه؛ هو إلى أي مدى استطاع هؤلاء العظماء أن يحددوا معالم هوية إسلامية؟ وإلى أي مدى يمكن الالتزام بها إزاء هذا الوضع بكل ما يحمله من أزمات؟.
وعند الإجابة، يمكن أن نتطرق أولاً لتعريف الأزمة علمياً، وهي حالة انفعالية مؤلمة تنشأ من الإحباط الموصول لدافع أو أكثر من الدوافع القوية، وتختلف الأزمة من حيث شدتها وطول بقائها واستعصائها على الحل، فتكون أشد وأعمق أثراً إن كانت الدوافع المعوقة حيوية وهامة.
أما الهوية فهي من مصدر هو (identite مصدرها id) وهي تكرس فردية الشخص، هذه الفردية تعد قاعدة أساسية لتشخيصه، ومن الناحية المدنية الاجتماعية، تتلخص فردية الشخص ببطاقة هويته (الاسم والكنية ومحل الولادة وتاريخها والوضع المدني.. الخ)، أما من الوجهة النفسية فإن الهوية توازي الجواب على السؤال التالي: (من أنا ومن سأكون؟ وما سيكون عليه دوري في الحياة وفي المجتمع؟) ، ولذا فإن الإنسان ينسب أفعاله الماضية إلى ذات مشتملة عليها اشتمال الجوهر على الأعراض، فيعرف أنه هو هو، وإنه لا يزال اليوم كما كان في الأمس، بالرغم من تغير أفعاله وأحواله .
إذن أزمة الهوية تحدث للإنسان حصراً دون غيره من الكائنات الحية الأخرى، باعتباره ذاتاً عاقلة ومفكرة، ذاتاً تستند على أفعالها وأعمالها من خلال وجودها الاجتماعي، وما تحمله من قيم ومعتقدات دينية سياسية كانت أم علمية.. وهي بأي حال من الأحوال تمثل الشخصية التي يحيا فيها ويتعامل بها مع الآخر، فعندما تهتز هذه الرؤية - العلمية منها أو الدينية أو السياسية - فإن القيم تهتز وتتدهور، وبالتالي يهتز المعتقد، وهنا يحدث الشرخ الكبير، ليصل إلى كيان الشخصية، فالأزمة الإنسانية إنما هي أزمة هوية بكل معانيها، وهي أزمة تحقيق وجود الحياة بما تحمله من صور اجتماعية..
إذن الأزمة بالذات الإنسانية، أزمة من حيث دعوة البشرية لسلوك طريق الحق، فكيف يسلك الإنسان هذا الطريق وقد اهتزت مفاهيمه وقيمه في حياته المعاصرة، وبعد أن أرست الرسالة المحمدية أسساً ثابتة في الإيمان؟ ولكن الأزمة وتيارها أقوى إذا ما طالت الأخلاق والضمير ومكونات الشخص الذاتية وبضمنها الهوية؛ وقد قال تعالى إزاء هذا الوضع الإنساني: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) (الروم: 41). ولهذا فإن البشرية بحاجة إلى العودة مرة أخرى إلى مراجعة الأخلاق واستئصال القيم التي باتت دخيلة على المجتمعات الإسلامية، إنها أزمة تشمل الحضارة البشرية بكاملها، وليست أزمة الحضارة الإسلامية تحديداً، ولكنها أكثر تأثيراً على قيم المجتمعات الإسلامية باعتبارها مست المعتقد والقيم الأصيلة.
إن البشرية بحاجة إلى العودة مرة أخرى للعاطفة الممزوجة بالرحمة، والتي تعلمتها البشرية عبر أكثر من (1400 سنة) خلت من الدعوة الإسلامية، فهي إحدى سماتها التي ميزتها عن النصرانية وقبلها اليهودية، أو المذاهب الأخرى غير السماوية، فالرسالة الإسلامية وسيرة النبي(صلى الله عليه وسلم) وأصحابه رضوان الله عليهم ضرورة من ضرورات التمسك بالصحيح، حيث قال الله سبحانه وتعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) (المائدة: 15).
وقال تعالى: (والذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلاّ الله) (الأحزاب: 39).
الحصن النفسي -نقلا عن الدكتور : سعــد الأمــارة (بتصرف يسير )